حدادين يكتب: حرية الرأي أم فوضى التشويه؟

المحامي الدكتور يزن دخل الله حدادين
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/13 الساعة 18:26
الفكرُ الذي يتغذّى على النقد من أجل النقد، أو الذي يتخذ من الضجيج بديلاً عن الرؤية، لا يمكن التعامل معه بوصفه رأياً عابراً، بل كظاهرة تحتاج إلى مقاربة واعية ومتدرجة. فهذه الأنماط من الخطاب لا تنشأ في فراغ، بل تظهر غالباً حين تعجز بعض الأيديولوجيات عن قراءة التحولات الواقعية، فتستعيض عن الفهم بالاستفزاز، وعن المشروع بالاعتراض المستمر. ومن هذا المنطلق، تظهر حكمة الدولة الأردنية في إدارة هذه الاختلافات بضبط الرؤية العامة، بحيث يُحفظ الوطن وسمعته، ويُمنح كل رأي مساحة للتعبير ضمن إطار المسؤولية الوطنية.

إن حرية الرأي، بوصفها قيمة راسخة، لا تُصان بالصمت أمام التشويه، ولا بالمصادرة الشاملة، بل بإدارة عقلانية للمجال العام تميّز بين النقد المسؤول والخطاب الذي يتعمد الإضرار بالصورة الوطنية. الآلية هنا ليست في تقييد الحرية، بل في ترسيخ وعي عام يفرّق بين حق الاختلاف وواجب حماية الثقة بالدولة، وهو ما تعكسه السياسات الحكيمة التي يقودها جلالة الملك عبدالله الثاني، حفظه الله، في توجيه المجتمع نحو الوحدة والاستقرار. فحين يُعاد تعريف الحرية بوصفها ممارسة مسؤولة، يفقد الخطاب الشعبوي قدرته على الاحتماء بالشعارات، ويتراجع تأثيره تلقائياً.

الأردن، بطبيعته السياسية والاجتماعية، يمتلك رصيداً تاريخياً في احتواء الاختلاف دون تفكيك الاستقرار، وهو ما يمثل بصمةً في العقلانية السياسية التي أرساها جلالته عبر عقود من القيادة الحكيمة. غير أن هذا الاحتواء لا يعني ترك الساحة بلا تنظيم فكري أو أخلاقي. فإحدى أهم آليات التعامل مع الأيديولوجيات المنتهية الصلاحية تكمن في عدم تضخيمها أو منحها حجماً أكبر من وزنها الحقيقي، مقابل تعزيز الخطاب العقلاني القادر على مخاطبة الناس بلغة المصالح والوقائع لا بلغة العاطفة. فالدولة حين تثق بنفسها، لا تنجرّ إلى معارك جانبية، بل تترك للزمن والعقل العام مهمة الفرز.

كما أن التعامل مع هذه الأيديولوجيات يتطلب مساءلة خطابها عن بدائلها، لا الاكتفاء برصد اعتراضاتها. فالفكر الذي لا يقدم حلولاً، ولا يمتلك تصوراً قابلاً للتطبيق، يجب أن يُسأل باستمرار: ماذا بعد؟ هذه المساءلة الهادئة، حين تُمارَس في الإعلام، وفي النقاش العام، وفي الفضاء الأكاديمي، تُسقط الخطاب الشعبوي من دون حاجة إلى صدام مباشر، لأنه يكشف عجزه أمام الرأي العام. وهنا تتجلى حكمة الدولة في توفير آليات المعرفة والإعلام الذي يوجه الرأي العام دون تقييد، مع حماية الثوابت الوطنية.

وفي الوقت ذاته، لا بد من تعزيز المناعة المجتمعية عبر بناء وعي سياسي عميق، يربط بين استقرار الدولة ومصالح الأفراد، ويجعل من الإساءة للوطن فعلاً مكشوف الأثر، لا بطولة زائفة. فالمجتمع الواعي هو خط الدفاع الأول، وهو القادر على عزل الخطابات التي تعيش على التهييج، دون أن تتحول الدولة إلى طرف في كل سجال. وهذا ما يعكس النهج الذي أرساه جلالة الملك عبدالله الثاني، حفظه الله، في بناء وطن يوازن بين التعددية والانضباط الوطني.

إن أخطر ما في هذه الأيديولوجيات ليس حدّة لغتها، بل قدرتها على إرباك البوصلة إن تُركت بلا معالجة واعية. لذلك فإن التعامل معها لا يكون بالتجاهل المطلق، بل بمزيج دقيق من الاحتواء المسؤول، والمساءلة العقلانية، وتعزيز البديل الفكري الأكثر نضجاً. حينها يتحول الخطاب الشعبوي إلى ظاهرة هامشية، فاقدة للتأثير.

الأردن لا يحتاج إلى معارك صوتية، بل إلى إدارة هادئة للاختلاف، تُعيد كل فكرة إلى حجمها الحقيقي، وتضع كل خطاب في سياقه، وتُبقي الدولة في موقعها الطبيعي: إطاراً منظِّماً، وحامياً للتعدد، وضامناً لعدم انزلاق الحرية إلى أداة هدم. عندها فقط، تضبط البوصلة، ويتحوّل النقد من عبء إلى قيمة، ومن ضجيج إلى مساهمة واعية في المسار الوطني، وهو ما يعكس جوهر النهج الأردني وحكمة قيادته الراشدة.
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/13 الساعة 18:26