هل وقعنا في فخ الإداريين؟

مكرم الطراونة
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/10 الساعة 00:17
ثمة فارق كبير بين الإداري والقيادي، فالإداري مسكون تاريخيا براتبه وتقاعده ورضا المسؤول عنه، من أجل تحقيق أكبر مدة ممكنة في الوظيفة. وهو في الغالب لا يمنح هامشا كبيرا للاجتهاد خوفا من مخرجات غير محسوبة، كما أنه يكون مرعوبا من المنافسة، لذلك لا يحيط نفسه إلا بموظفين بقدرات محدودة، لكي يقطع الطريق أمام إمكانية صعود أحدهم إلى مكانه.

لكن القائد يمتلك فروقا بصفات جوهرية، تتعلق بالأسلوب والهدف وطريقة التأثير في الآخرين، فهو ليس مديرا يمارس سلطة رسمية تعطى له بحكم المنصب، مركزا على تنفيذ المهام وضمان الالتزام بالخطط والإجراءات وفق السياسات والإجراءات، بل يمارس تأثيرا نابعا من الشخصية والرؤية، ويجتهد لوضع رؤية وتوجيه الفريق نحو التغيير والتحسين، من خلال الإلهام، والتحفيز، وبناء الثقة، كونه يتعامل مع فريقه كشركاء في النجاح، ويهتم بتطويره، كما يبحث فيه عن الابتكار، ويشجع على المخاطرة المحسوبة.

من هذه المنطلقات، وبتمكين الإداريين من شغل الوظائف العامة وترسيخ ثقافاتهم الجبانة المتأتية من قدراتهم المحدودة، تمت التضحية بكثير من القيادات الكفؤة التي كان يمكن لها أن تُحدِث فارقا إيجابيا في عمل الكثير من المؤسسات. ومن خلال سياسات الإدارة محدودة القدرات التي يمثلها إداريون صعدوا إلى الوظائف العليا باستحقاق سنوات الخدمة أو بالحظ أو بالواسطة، انطفأت كفاءات كبيرة عرفنا كثيرا منها، وغابت في طي النسيان، مفسحة المجال لموظفين بلا مواهب ولا أهداف ولا قدرة على وضع الإستراتيجيات أو اتخاذ القرارات والقتال من أجلها.

تميزت الإدارات الأردنية على مدى عقود بتصعيد القيادات، فمنذ تأسيس الأردن، استطاع المؤسسون بناء جهاز إداري قادر على تطوير نفسه باستمرار، من خلال السماح بتراكم الخبرة المؤسسية وتطوير أنظمة عمل مستقرة، لكي تكون قادرة على تنفيذ سياسات طويلة المدى، وهو الأمر الذي أدى لتراكم الخبرات في مجالات التخطيط والمالية والخدمات العامة، وأكسب الأردن سمعةً عالية في إعداد الكفاءات الإدارية.

هذا التطوير والفاعلية جاء بالدرجة الأولى من الاستثمار في التدريب والتأهيل، باعتماد الدولة برامج لرفع قدرات الموظفين، ما ساهم في تطوير كوادر مهنية عالية الأداء، وقادرة على تنفيذ برامج بأهداف معينة، وبمؤشرات أداء واضحة.

لكن، ما فائدة الاستثمار في التدريب والتطوير، إن كنا مستمرين في منح المناصب العليا المؤثرة لموظفين إداريين، من دون أن نسمح لأولئك الذين يمتلكون منظورا حقيقيا في الإدارة والقيادة من تولي تلك المناصب، ومحاولة منح المنصب بعدا قياديا يسهم في صناعة القادة.

اليوم، نحن أمام جيل من الإداريين الذين تم تصنيعهم بخبرات محدودة، وقدرات ذات طبيعة ميكانيكية لتيسير العمل ضمن "الحدود الآمنة"، ومن خلال الوصفات الجاهزة والإجابات المعدة مسبقا، فهو جيل لا يمتلك أي رؤى، ولا يصنع أي مشروع، لأنه غير قادر على التفكير خارج الصندوق لحلول أكثر إبداعا، وأكثر التصاقا بمجتمعاتنا!

لا أتحدث عن وزير أو أمين عام، رغم أن بعضهم وقع في ذات الفخ الإداري، وإنما عن سواد أعظم بات اليوم يُحكِم قبضتَه على الإدارة العامّة، ويلتزم بقوة المكتب، وهذا الجيل يتفنن في إيهام من فوقه بأنه الركن الأساس، وأنه صاحب حلول لمشاكل افتعلها بنفسه.

ببساطة، كل الجدل الدائر عن التحديث الإداري يختصر بكلمة سرّ واحدة بين قائد وإداري، فنحن بحاجة لقائد يبتكر الحلول ويقدم المشاريع ويدافع عن قراراته، حتى لو كان الثمن منصبه وراتبه ومستقبله في الوظيفة.

أما ما نملكه اليوم فهو جيل إداريين يعتمد على مبدأ "سكّن تسلم"، وهكذا تحولنا في بعض الإدارات العامة إلى مياه راكدة بعد أن كنا نهرا دفاقا يبني المؤسسات ويطرح الأفكار ويقدّم الحلول.
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/10 الساعة 00:17