ما بين الضفة الغربية والدونباس، توازنات تتفكك ومعادلات تولد من جديد
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/09 الساعة 23:18
ملخص الدراسة
تتناول الدراسة تشابك جبهتي غزة والضفة الغربية والدونباس الأوكرانية باعتبارهما محورين يعيدان تشكيل النظام الدولي عبر مقايضات غير معلنة بين القوى العظمى. فالأراضي الفلسطينية مركز الشرعية السياسية في الشرق الأوسط، واراضي الدونباس الأوكرانية، التي تعتبرها موسكو خط الدفاع الروسي الأهم لامن بوابتها الغربية.
تشير المعطيات إلى تنسيق صامت بين أميركا وروسيا يهدف لإدارة الأزمات لا الى حلّها جذرياً. والنظام العالمي لم يعد قائمًا على اتفاقات مكتوبة، بل على تفاهمات صامتة، ويدخل مرحلة المقايضات الكبرى في الظل. ان ما يحدث اليوم ليس اتفاقًا، بل إعادة رسم بطيئة لحدود القوة عبر أزمات تمتد من غزة إلى كييف ومن كاراكاس إلى مضيق تايوان، مرورًا بأفريقيا، حيث كل أزمة مرتبطة بالأخرى، وتصبح أي حرب، مهما كانت صغيرة، جزءًا من مزاد النظام الدولي الجديد، وكل ملف يفتح بوابة لملف آخر، ولمرحلة ترتسم فيها الخرائط على ورقة واحدة، ورقة المصالح الصافية، والتي تحدد شكل القرن الحادي والعشرين.
اما الصين فهي تسعى لمنع أي صفقة ثنائية تستثنيها، وتحاول إيجاد توازن بين دعمها لموسكو وتعزيز حضورها في أوروبا والشرق الأوسط. لكن أوروبا المستنزفة اقتصادياً، تشعر اليوم بانها الأكثر هشاشة وتخشى أن تكون ضحية أي تفاهمات دولية لا تأخذ بعين الاعتبار امنها ومصالحها.
حرب غزة، التي كشفت تراجع الردع الأميركي والإسرائيلي في المنطقة، ساهمت في صعود نفوذ لقوى أخرى في المنطقة، منها العالمية والإقليمية، وأصبحت المسرّع الأكبر لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، لا بل النظام العالمي ككل.
وسط ذلك، يجد الأردن نفسه في موقع حساس، إذ ترتبط الضفة وأمن القدس مباشرة بأمنه القومي، ما يدفعه لتكثيف الدبلوماسية، وتثبيت خطوطه الحمراء لفرض حضوره، واستخدام أوراق الموقع الجيواستراتيجي، والامن والحدود والإرهاب وغيرها، لمنع استبعاده من اية ترتيبات يصنعها الآخرون لما بعد الحرب.
والسؤال الذي سيحدد شكل القرن المقبل ليس من يربح الضفة الغربية أو الدونباس في ظل بيئة عالمية تتجاوز حدود القانون الدولي؟ بل من يملك القدرة على منع الآخرين من إعادة رسم الخرائط من دونِه! وهذه هي أخطر صيغة يمكن أن تواجهها بعض الدول وخاصة التي تعاني من أزمات اقتصادية.
في لحظات الاضطراب العالمي، تصبح الجغرافيا السياسية أشبه بطاولة بلياردو تتحرك فيها الكرات ببطء، لكنها حين تصطدم تُعيد تشكيل المشهد الدولي. اليوم تتقاطع جبهتان، مع انهما تبدوان متباعدتين جغرافيًا، لكنهما متصالبتان في بنية النظام الدولي، الأراضي الفلسطينية واراضي الدونباس الاوكرانية. الأولى قلب الصراع العربي الإسرائيلي وخزان الشرعية السياسية في الشرق الأوسط، والثانية بوابة روسيا نحو أوروبا وساحة الاشتباك الأكثر سخونة بين موسكو والغرب. وبينهما تتحرك القوى العظمى بأدوات دقيقة، يرافقها صعود فرضية المقايضات الكبرى بينهما، وحديث عن اتفاق روسي أميركي، البعض منها معلن، ولكن أكثرها في الظل، لإعادة رسم حدود النفوذ في الشرق الأوسط وشرق أوروبا. بينما تدفع المنطقة العربية ثمنًا مباشرًا لكل تغير في الإيقاع العالمي. كم ويربط البعض بان الأزمة بين واشنطن وكاراكاس الحليف الروسي في الجزء الغربي من الكرة الأرضية، جزء من المشهد ذاته.
رغم اختلاف السياق، بين قضية الأراضي الفلسطينية واراضي الدونباس، الا انهما تمثلان عقدتين مركزيتين في رسم ملامح المستقبل الجيوسياسي العالمي.
الاراضي الفلسطينية هي قلب صراع الشرق الاوسط، ولها وزن روحي وسياسي وجيواستراتيجي لا مثيل له، فهي الجسر بين الأردن وإسرائيل، ومحور رئيسي في علاقات واشنطن مع العرب. كما وترتبط مباشرةً بالأمن القومي الأميركي والإسرائيلي، والأردني وبمستقبل النفوذ الإيراني والتركي والترتيبات مع الخليج العربي.
اما الدونباس الاوكرانية، فهي خط التماس الأهم بين روسيا وحلف الناتو، وبوابة لمستقبل أوروبا الشرقية، وخزان للثروات الطبيعية، وميدان يحدد قدرة موسكو على فرض رؤيتها الإقليمية، وسقوطها أو ثباتها يعيد تعريف حدود القوة الروسية.
من يملك النفوذ في هاتين الجبهتين يمتلك أثمن مفاتيح القوة في القرن الحادي والعشرين. فكلا المنطقتين إذًا ليستا مجرد أزمات محلية، بل نقاط ارتكاز لنظام عالمي جديد اخذ في التشكل، ومن يسيطر عليهما يملك أثمن أوراق النفوذ الجيوسياسي على الكوكب.
والسؤال، هل تسمح الأقطاب الدولية بالسيطرة الكاملة لأحدهما وامتلاك الأوراق الجيواستراتيجية فيهما بالكامل؟
الوقائع على الطاولة تشير إلى أن النموذج الجديد في العلاقات الدولية لم يعد يقوم على اتفاقات شاملة وواضحة، بل على تفاهمات صامتة تعيد توزيع النفوذ قطعة قطعة، وفق موازين القوة لا القانون الدولي.
على المستوى الأمريكي الروسي، تظهر البيانات، بان هناك تنسيق صامت، ولكن ليس اتفاقًا مكتمل الأركان. وليس سرًا أن معظم القوى العظمى تتبادل الرسائل عبر ساحات الصراع أكثر مما تفعل في غرف التفاوض، او عبر البيانات الرسمية.
ان بوادر التنسيق تظهر من خلال العمل على تقليل حدة التصعيد المباشر بين أميركا وروسيا بالرغم من استمرار الحرب في أوكرانيا، وهو ما يذكّر بنمط إدارة الأزمة لا حلّها، يرافقه التغاضي الأميركي النسبي عن بعض التقدم الروسي في جبهات القتال، مقابل تركيز الإدارة الامريكية بدرجة أكبر على الجبهة الشرق أوسطية، والبعض يعتقد بان واشنطن أرسلت لموسكو رسالة غير مباشرة، مضمونها ان أوكرانيا ليست أولوية امريكية قصوى الآن (خاصة بعد توقيع اتفاق استغلال الثروات مع اوكراني)، فأولوية التركيز على الشرق الأوسط، والمتمثلة في ساحة غزة والضفة الغربية وبصورة غير مسبوقة.
ان بعض المعطيات تشير الى ان ما يعطّل الاتفاق الكامل بين روسيا وامريكا للبدء بتنفيذ الخطة، هو الطلبات الروسية مرتفعة التكلفة، والتي منها طلب ضمانات مكتوبة حول عدم توسع الناتو نهائيًا شرقًا، وإزالة أي نوع من التهديد الغربي في شرق أوروبا للأمن الروسي. وبذات الوقت أمريكا تريد تعهداً روسياً يحدد سقف الطموحات الروسية في الشرق الأوسط وإفريقيا وقد تصل الى أمريكا اللاتينية. بينما إسرائيل نفسها لا تريد صفقة كونية تؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية، او حتى تقديم اية تنازلات في ملف الضفة الغربية.
النتيجة الظاهرية، تشير إلى ان هناك تفاهمات موضعية تتغير حسب اللحظة السياسية، فواشنطن، المنشغلة بخطة غزة، بحاجه إلى تهدئة نسبية في الدونباس. أما موسكو، المرهقة من استنزاف طويل، فهي بحاجة إلى مساحة مناورة أكبر في الشرق الأوسط. ان ما يجمع الطرفين ليس التفاهم، بل الإدراك المشترك بأنّ فتح جبهة صراع كبرى جديدة سيكلّفهما أكثر ممّا سيكسبانه، وبالتالي يبقى المشهد محكومًا بتفاهمات رمادية، لا اتفاق ولا صدام شامل، بل إدارة دقيقة للهزّات، الى ان تحين لحظة الوصول الى صفقة كبرى تحقق طموح الطرفين.
السؤال الذي قد يطرح ماذا عن الصين؟ في ظل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة في كانون اول 2025 تحت عنوان "أمريكا أولاً، والتي تعتبر فيها الصين منافساً قوياً، الا ان التركيز العسكري الأميركي على آسيا يُعاد موازنته، فالأولوية الآن ليست تفكيك النفوذ الصيني في كل مكان، بل تحقيق معاملة اقتصادية بالمثل، وتقليل الاعتماد على سلاسل توريد الخصوم.
الصين، ببراغماتيتها الثقيلة، تلتقط الإشارة، وهي لا ترغب برؤية صفقة ثنائية تعيد ترتيب النظام الدولي من دونها. مصلحتها في استمرار الضغط على واشنطن واستنزاف موسكو بشكل لا يؤدي لانهيارها. ولذلك، فهي تُبقي قناة دعمها لروسيا مفتوحة، دون الانخراط في حرب مباشرة، وتظهر دعمًا للقضية الفلسطينية يعزّز من حضورها العربي، وترفض أي تفاهم أميركي روسي يستثنيها، لأنه يقيد من قدرتها على التمدد، لذا فهي تحاول كسر أي مسار يؤدي إلى تفاهم شامل بين واشنطن وموسكو.
كما ان الصين ترى أن كل فوضى تُضعف واشنطن، وكل سباتٍ عسكري يستنزف روسيا، يصب في مصلحتها، وهي بذلك تنطلق من نظرية "كل حرب تُضعِف قوة منافس، وكل أزمة تطيل أمد الفوضى، تمنحها مزيدًا من الوقت لتصبح القطب الاقتصادي والسياسي الأول عالميًا". وكأنها اللاعب الذي يراقب من أعلى، فهي تريد عالمًا بلا صفقة كونية ثنائية (أميركية روسية)، بل تريد نظامًا ثلاثيًا تكون فيه لاعبًا موازيًا وليس ثانوياً.
اما أوروبا، التي اعتمدت على دعم الولايات المتحدة في الحرب الأوكرانية، وتعتمد على الشرق الأوسط في الطاقة (بعد ان كانت اعتمادها على روسيا)، وعلى الاستقرار العالمي لاقتصادها، وتخشى أن تتحول الضفة الغربية إلى بؤرة انفجار تهدد أمن المتوسط وامن الطاقة معاً. فأوروبا، القارة التي تدفع فاتورة الحرب في أوكرانيا، وتدرك أن أي مقايضة بين موسكو وواشنطن قد تتم على حسابها. لهذا السبب تبدو أوروبا الأكثر تشددًا في دعم أوكرانيا، والأكثر حساسية تجاه ما يجري في الشرق الأوسط، لأنها لا تريد أن تصبح ضحية صفقة لا تصنعها بيدها، او لا تشارك فيها على الاقل، وتظهر حساسية لأي تفاهم دولي قد يجعل مصالحها وقودًا في لعبة هي ليست طرفاً فيها، وتبدوا اليوم الأكثر هشاشة من أي وقت مضى.
في خلفية هذا المشهد الدولي المتصدّع، يطلّ عنصر آخر لا يقلّ أهمية، وهو محاولة التنسيق الصيني الأوروبي، والذي قد يتصاعد بهدوء، وكأنه حركة جيواستراتيجية تستعدّ لتغيير موازين القوى دون إطلاق رصاصة واحدة. فالصين، التي تقرأ العالم بعيون الاقتصاد، وحسابات القوة الصاعدة، تدرك أن مستقبل نفوذها لن يُبنى فقط في بحر الصين الجنوبي أو في آسيا الوسطى، بل أيضًا في العواصم الأوروبية التي تحتاجها بكين كمنفذ للتكنولوجيا والأسواق والاستقرار التجاري، ولتقليص اعتمادها على السوق الأمريكية وتوزيع المخاطر الجيوسياسية.
لذلك، فإن بكين ترى ان تعزيز التنسيق مع أوروبا ليس خيارًا تكتيكيًا فحسب، بل قد يكون تحوّل استراتيجي طويل الأمد في حال نجحت فيه.
ومع ذلك، فإن هذا الانفتاح الصيني على بروكسل، لن يكون على حساب موسكو. فالصين ترى في روسيا شريكًا استراتيجيًا لا يمكن التفريط به، كمصدر للطاقة الرخيصة، وعمقًا جيوسياسيًا يخفّف عنها عبء المواجهة المباشرة مع واشنطن، وركنًا ثابتًا في لعبة التوازنات الكبرى.
وبكين تعمل جاهدة لعدم التخلي عن أوروبا، وروسيا معاً، بل تعمل على اتقان فن التوازن الناعم، تنسّق اقتصاديًا مع الاتحاد الأوروبي، وتتقارب سياسيًا مع موسكو، وتحاول إبقاء واشنطن في حالة ارتباك دائم. فهي اليوم، ليست في موقع يسمح لها باختيار طرف واحد.
لكن ما تفعله الصين، هو استراتيجية توازن متعدد المستويات يقوم على الفصل بين التعاون الاقتصادي والسياسي مع أوروبا (تعاون اقتصادي واسع، وحوار سياسي محسوب)، ومع روسيا تقارب سياسي واستراتيجي وتعاون اقتصادي موجّه للطاقة والدفاع، مع عدم تبنّي الرواية الروسية بالكامل.
لذلك نجد الصين، تدعم موسكو لفظيًا في مواجهة الغرب، لكنها لا تعترف علنياً بضمّ أراضي الدونباس، ولا تقدم مساعدات عسكرية بشكل مباشر لروسيا. فبكين تحرص على ألّا تتحوّل إلى طرف في الصراع مع الغرب، بل إلى قوة وسيطة ضمنية، من خلال تقديم نفسها لأوروبا كطرف عقلاني، وكشريك قابلًا للتفاهم، وتستثمر في الانقسام الأوروبي الداخلي بين المعسكر البراغماتي (ألمانيا وفرنسا)، والمعسكر المتشدد (بولندا ودول البلطيق)، مما يسمح لها بتوسيع هامش المناورة دون خسارة موسكو.
فالصين لا تستطيع ولا ترغب قطعاً بالتخلي عن روسيا، لأنها الورقة الوحيدة التي تضمن عدم انغلاق آسيا عليها. لذلك فهي تدير علاقتها مع موسكو كرأسمال استراتيجي ثابت.
ومع كل ذلك فان السيناريو الوحيد الذي قد يجعل الصين تتحرك للتنسيق مع أوروبا ضد روسيا هو، أن تدفع الحرب الأوكرانية روسيا نحو ضعف استراتيجي كبير بحيث تصبح عبئًا على الصين بدل أن تكون رصيدًا لها. الا ان هذا السيناريو حتى الآن، يبدو ضعيفاً جداً في ظل توسع التقدم الروسي في الأراضي الأوكرانية. وهذا يعني ان الصين لا تنحاز لطرف واحد، بل تنحاز لمصلحتها فقط.
فالصين ترى في روسيا جزءًا من معادلة التوازن الدولي، لا من معادلة التكلفة.
اليوم، وحيث تتقاطع جبهات العالم من الضفة الغربية إلى الدونباس، تبدو الصين اللاعب الوحيد الذي يربح من الجميع دون أن يدفع ثمنًا مباشرًا.
في ذات الوقت، الولايات المتحدة، تعيد النظر في اهتماماتها بأمريكا اللاتينية كجزء من النصف الغربي للكرة الأرضية، على حساب بقية أجزاء العالم، وهي بذلك تُعيد إحياء عقيدة مونرو، التي تعتبر المنطقة مجال نفوذ حصري للولايات المتحدة، وبالتالي على واشنطن أن تضمن أمنها القومي من خلال التركيز على مكافحة الهجرة، والجريمة، وتهريب المخدرات، باعتبارها تهديداً مباشراً للأمن الأميركي (أي أن أمن الحدود والهجرة أصبحت محاور أساسية للسياسة الخارجية)، والاستثمار في الثروات الطبيعية الهائلة للقارة، عبر فرض سيطرتها على المحيط الغربي، وحماية المنطقة من النفوذ الروسي أو الصيني.
ويبدوا ان ما يجري مع فنزويلا، بداية للتطبيق المباشر للخطة الامريكية، وهي التي ينظر اليها كأحد أدوات موسكو في تحدي النفوذ الأميركي غرب المحيط، مع التلويح بها كجزء من لوحة المقايضات العالمية، مما يعني ان أي توتر مع فنزويلا بمثابة رسالة روسية للولايات المتحدة في حديقتها الخلفية.
كما انه كلما احتاجت أميركا تهدئة في الشرق الأوسط أو ضغطًا أكبر على روسيا، تصبح فنزويلا ورقة للمساومة، من حيث تخفيف الضغط، مقابل تعاون نفطي يحدّ من قدرة روسيا على استخدام نفطها كورقة ضغط اضافيه. وبذات الوقت روسيا تشجّع مادورو على التصعيد كلما أرادت مضايقة واشنطن في الظرف السياسي الحرج. بهذا المعنى، فنزويلا ليست أزمة منفصلة، بل صندوق أدوات للضغط المتبادل وجزء من لعبة النفوذ العالمية بين واشنطن وموسكو.
أمريكا، لم تعد ترى في منطقة الشرق الأوسط ذلك المحور الاستراتيجي، كما في العقود الماضية، والسبب، في تراجع الاعتماد الأميركي على نفط المنطقة، مما يقلل أهميتها كجغرافيا استراتيجية، لكن بعض المصالح السياسية والحيوية تبقى قائمة وبقوة، مثل أمن إسرائيل، حرية الملاحة عبر مضائق الشرق الأوسط البحرية (الخليج العربي وباب المندب وقناة السويس)، لتامين خطوط التجارة العالمية.
ان هذه الاستراتيجية، قد تؤدي الى زيادة الضغط على الدول الإقليمية لتحمل مسؤولية أمنها، او القيام بتحالفات إقليمية، بدل الاعتماد على واشنطن بالكامل.
ان دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قد يصبح أكثر تركيزاً على المصالح، ودعم حلفاء معينين بدلاً من الانخراط الكامل في إدارة ألازمات أو الصراعات الشرق أوسطية، والتي لا تنتهي.
لكن في المقابل، قد تفتح هذه الفرصة لدولة مثل إيران أو قوى إقليمية أخرى لإعادة رسم التوازن الذ يناسبها، خاصّة إذا رأت أن الحماية الأميركية أقل جدّية. لكن هذا يتوقف أيضاً على سياسات إيران وخصومها والقوى الإقليمية الأخرى الصاعدة.
السؤال هنا، هل كانت حرب غزة المسرّع الأكبر لإعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط؟
ان حرب غزة لم تكن حدثًا إقليميًا، عمل على إعادة التفكير في خارطة الشرق الأوسط فقط، بل غيّرت الحسابات الدولية برمتها، وأصبحت مسرّعًا عالميًا يضغط على ثلاث دوائر رئيسية. أولها، الاقتصاد العالمي، حيث كان لها تأثير مباشر على أسعار الطاقة، وسلاسل الإمداد، ومعنويات الأسواق، ما أجبر واشنطن وأوروبا على إعادة ترتيب أولوياتها المالية. ثانيها، الأمن الشرق أوسطي، حيث أصبح الاستقرار الإقليمي على رأس أجندة العالم، لضمان أمن الملاحة في البحر الأحمر، والحدود المصرية الإسرائيلية، ومستقبل الضفة الغربية، وحسابات إيران والخليج. وثالثها، الحسابات الاستراتيجية بين القوى الكبرى، حيث واشنطن وجدت نفسها أمام اختبار وجودي في الشرق الأوسط، ما دفعها إلى مضاعفة اهتمامها بملف غزة، خشية أن تفقد السيطرة لصالح المحور الروسي والصيني والمتحالف ظاهرياً مع الإيراني.
ان من يراقب التحولات منذ اندلاع حرب أوكرانيا ثم حرب غزة، التي تحولت إلى زلزال جيوسياسي، حيث اكتشف العالم هشاشة التحالفات، وتراجع الردع الأمريكي، وصعود موسكو وبكين كقوتين قادرتين على إرباك الحسابات الإسرائيلية – الأمريكية، إذا وجدتا ذلك ضرورياً. فالمعركة كشفت وجود فجوة في صورة القدرة الأمريكية على إدارة ملف الصراع في الشرق الأوسط.
ان المراقب، يلاحظ أن واشنطن وموسكو رغم العداء العلني الذي كان معلن، الا ان الغزل السياسي المتبادل في الآونة الاخرة، وكأنهما تسيران نحو قواعد اشتباك تضمن لكل طرف مكاسبه الأساسية، حتى وإن بدت الساحة مشتعلة. وفي مثل هذه الحظة، لا غرابة أن تصبح الضفة الغربية ملفًا تفاوضيًا غير معلن في حسابات القوى الكبرى.
فروسيا تريد اعترافًا ضمنيًا بسيطرتها على اراضي الدونباس الأوكرانية وشبه جزيرة القرم، وأمريكا تريد ضبط اقليم الشرق الأوسط لصالح أمن إسرائيل وإعادة هندسته بما يضمن مصالحها وبأقل تكلفة.
وهكذا ظهرت معادلة غير مكتوبة، تخفيف الضغط على روسيا في أوكرانيا مقابل قبول موسكو بتحرك أمريكي أوسع في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل. فالامتناع الروسي عن التصويت على الخطة الأمريكية الخاصة بغزة، بعد اتصالات بين ببوتين ونتنياهو قبل التصويت على مشروع القرار الأمريكي، كان واضحًا أن تل أبيب تسعى لمنع روسيا من استخدام الفيتو في مجلس الأمن رغم امتلاك موسكو لمشروعها الخاص، والمغاير للنهج الأميركي، وهذا القرار، لم يكن تفصيلًا عابرًا.
فامتناع روسيا عن التصويت لم يكن مجاملة لواشنطن، ولا خضوعًا لرغبة إسرائيل، بل جزءًا من ثلاثة اعتبارات رئيسية، وهي عدم التصادم المباشر مع واشنطن في لحظة حساسة عالميًا، والحفاظ على قناة تواصل مع إسرائيل التي تريد موسكو إبقاءها مفتوحة، وترك الباب مفتوحًا لدور روسي في الشرق الأوسط بعد الحرب.
لذلك اختارت روسيا التموضع الرمادي، لا تأييد للخطة الأميركية، ولا اعتراض كامل عليها، فبذلك يكون تفسير امتناع موسكو عن التصويت، ليست بالمؤامرة، ولكن ليس بالصدفة أيضاً.
ان نتائج الاتصال دفعت كثيرين للظن أن صفقة ما تُطبخ في الخفاء، وهل كان الثمن فلسطين؟ لكن السؤال الأخطر هو ما المقابل؟ وهل حصلت موسكو على ضمانات بشأن أوكرانيا؟ وهل حصلت إسرائيل على التزام روسي بعدم عرقلة خطتها في غزة والضفة؟ وهل التزم نتنياهو بتمرير رسائل معينة تتعلق بالوجود الإيراني؟ وهل يمكن أن نتحدث عن مقايضة كبرى حصلت؟
فالصمت الروسي بعد المكالمة أعطى الإجابة، هناك شيء ما حدث، ولكن لم يُعلن عنه حتى الآن.
الفرضية التي تنتشر اليوم تقول إنّ روسيا قد تقبل بالاكتفاء بأراضي بالقرم والدونباس، وبتجميد الوضع في باقي الأراضي الأوكرانية، مقابل قبول أميركي بتجميد الوضع في الضفة الغربية أو العكس.
لكن الحقيقة الجيواستراتيجية أكثر تعقيدًا، فالضفة الغربية ليست ملفًا يمكن أن تتخلى عنه واشنطن أو إسرائيل مقابل أي تنازل روسي، والدونباس بالنسبة لروسيا ليس مساحة جغرافية، بل خط دفاع استراتيجي، والصين ستعرقل أي صفقة لا تكون جزءًا منها، وأوروبا لن تقبل أن يتم حلّ أزمة أوكرانيا خارج إطار مصالحها.
بمعنى آخر، المقايضة المباشرة غير ممكنة، لكن المقايضة غير المباشرة ممكنة جدًا.
في ظل هذا المشهد، أصبح من المستحيل فصل موضوع الضفة وغزة، عن القضية الاوكرانية، أو فصل القضية الأوكرانية عن الفنزويلية، وبالتالي هناك نظام عالمي كامل يُعاد تشكيله كارتداد لحرب غزة.
من الواضح أن حرب غزة، جعلت من الشرق الأوسط مركزاً لصراع القوى الكبرى أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة، حيث ان إسرائيل تريد ضمانة أميركية كاملة، وإيران تريد تثبيت نفوذها عبر اذرعها، وروسيا تريد توسيع دورها في سوريا واحواض المياه الدافئة، والصين تريد ممرّات التجارة والطاقة والاستثمار، والخليج يريد استقرارًا يحمي طاقته وممراته، والأردن يجد نفسه اليوم في قلب المعادلة الأصعب منذ عقود، حيث ان أي ترتيبات تخص غزة والضفة ستنعكس مباشرة على الأمن القومي الأردني، ديموغرافيًا (التوازن السياسي الداخلي)، وسياسيًا وحدوديًا. ويرى الأردن ان أي حلول خارج إطار الدولة الفلسطينية تعني تهديدًا للمكانة الأردنية في القدس، وان أي ترتيبات اقتصادية أو أمنية لغزة خارج دور الأردن تعني استبعاده من إعادة رسم المنطقة. لهذا أعلن الأردن بوضوح، لا تهجير، ولا توطين، ولا حلول خارج إطار الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذه بالنسبة للأردن ليست شعارات، بل خطوط دفاع وجودية.
فالضفة الغربية، بالنسبة للأردن ليست مجرد ملف جارٍ، بل هي امتداد أمن قومي مباشر، وان أي ترتيبات تخص مستقبلها سواء في صفقة أمريكية - روسية أو في هندسة جديدة للشرق الأوسط، لا يمكن أن تتم من دونه، وهذه ليست رسالة سياسية، بل رسالة وجودية، وبخلاف ذلك ستدخل المنطقة في فوضى إستراتيجية.
فالخطر الحقيقي لا يكمن في قرار مجلس الامن، بل في وجود مشاريع تؤسس لمرحلة ما بعد غزة، وأحاديث في غرف مغلقة حول ماهية شكل السلطة الفلسطينية القادم، وسيناريوهات انتقال السلطة الأمنية في الضفة إذا تغيرت المعادلة الإسرائيلية الداخلية، ومحاولات إقليمية على حساب الدور الأردني في الملفات الفلسطينية المختلفة، متناسياً بان الأردن هو من يملك الشرعية والأوراق التي لا يملكها أحد غيره.
كل ذلك يجعل السؤال الأردني، كيف للأردن ان يحمي نفسه من أن نصبح مستبعدًا في لحظة إعادة تشكيل الشرق الأوسط؟
امام كل هذا، فالأردن بقيادة الملك، لم يقف مكتوف الايدي لحماية دوره ومنع استثنائه، فهناك تحرك دبلوماسي متعدد المسارات، والحفاظ على شراكات متوازنة مع واشنطن وموسكو وبكين وأوروبا والخليج، واستعادة دوره المركزي في الملف الفلسطيني، وتقديم رؤية أردنية واضحة للحل النهائي وجوهرها، دولة فلسطينية، وأمن الحدود، ودور أردني في الوصاية وملف القدس.
كما يعمل على تثبيت موقف داخلي موحّد، من اعداد وثيقة وطنية تشمل الخطوط الحمراء الأردنية، لتكون أساسًا لاي تفاوض قادم، وتمنع الضغط الخارجي عبر اختراق الداخل. وهنا أصبح من الضرورة تقديم عرض عملي للعالم، وبمشاركة أردنية في برامج إعادة الإعمار، وإدارة المعابر الإنسانية، ودور أمني لوجستي دون انخراط عسكري مباشر في غزة، والعمل بقوة لصياغة موقف إقليمي موحّد يحمي مصالح دول الجوار ويمنع فرض حلول خارج إرادة المنطقة.
الا ان الأردن اليوم بأمس الحاجة الى تمتين جاهزية الدولة داخليًا، من حيث تعزيز قدرات الأمن والاقتصاد والحدود لاستيعاب أي طارئ ناتج عن ترتيبات ما بعد غزة، وتفعيل أدوات القوة الناعمة، وتصدير سردية أردنية مستقلة حول مستقبل الضفة والدولة الفلسطينية، والإسراع في اصلاح التعليم والإدارة العامة فعلاً لا قولاً، فالمرحلة ليست مرحلة شعارات لإحداث ضجيج سياسي، بل مرحلة أوراق وافعال.
لكن الحقيقة أن بعض القوى الإقليمية والدولية تحاول القفز فوق الدور الأردني، إما بدافع النفوذ أو بدافع إعادة رسم خريطة التحالفات لتعزيز نفوذها، واضعاف الاخرين.
وبين كل ذلك تتحول الضفة الغربية وغزه إلى ساحة رسائل استراتيجية بين الجميع، تمامًا كما تحولت الدونباس ساحة رسائل بين واشنطن وموسكو وبكين واوروبا.
في النهاية يبقى السؤال، هل نحن أمام صفقة كونية عنوانها، الضفة الغربية مقابل الدونباس؟
الجواب الواقعي، ليس بعد، ولكن العالم يسير باتجاه منطق يشبه هذا النوع من المقايضات.
فحرب غزة أعادت تشغيل ماكينة صناعة النفوذ العالمية، والدونباس ما زالت ساحة اختبار لأوروبا وروسيا. وفي الوسط تقف دول مثل الأردن، التي إن لم تبادر وتستخدم اوراقها بقوة، لتفرض حضورها، ستجد نفسها في هامش ترتيبات يصنعها الآخرون.
فالنظام العالمي لم يعد قائمًا على اتفاقات مكتوبة، بل على تفاهمات صامتة، ويدخل مرحلة المقايضات الكبرى في الظل. ان ما يحدث اليوم ليس اتفاقًا، بل إعادة رسم بطيئة لحدود القوة عبر أزمات تمتد من غزة إلى كييف ومن كاراكاس إلى مضيق تايوان، مرورًا بأفريقيا، حيث كل أزمة مرتبطة بالأخرى، وتصبح أي حرب، مهما كانت صغيرة، جزءًا من مزاد النظام الدولي الجديد، وكل ملف يفتح بوابة لملف آخر.
فالعالم يدخل مرحلة جديدة، مرحلة المقايضات الكبرى غير المعلنة، ومرحلة ترتسم فيها الخرائط على ورقة واحدة، ورقة المصالح الصافية، والتي تحدد شكل القرن الحادي والعشرين.
والسؤال الذي سيحدد شكل القرن المقبل ليس من يربح الضفة أو الدونباس؟ بل من يملك القدرة على منع الآخرين من إعادة رسم الخرائط من دونِه؟ وهذه هي أخطر صيغة يمكن أن تواجهها دولة تقع في قلب الشرق الأوسط مثل الأردن، يعاني من أزمات اقتصادية ضاغطة.
وفي هذا الامتحان، يصبح دور الأردن ليس مجرد بندٍ في التفاوض، بل قضية أمن قومي ووجود سياسي لا يحتمل التأجيل.
تتناول الدراسة تشابك جبهتي غزة والضفة الغربية والدونباس الأوكرانية باعتبارهما محورين يعيدان تشكيل النظام الدولي عبر مقايضات غير معلنة بين القوى العظمى. فالأراضي الفلسطينية مركز الشرعية السياسية في الشرق الأوسط، واراضي الدونباس الأوكرانية، التي تعتبرها موسكو خط الدفاع الروسي الأهم لامن بوابتها الغربية.
تشير المعطيات إلى تنسيق صامت بين أميركا وروسيا يهدف لإدارة الأزمات لا الى حلّها جذرياً. والنظام العالمي لم يعد قائمًا على اتفاقات مكتوبة، بل على تفاهمات صامتة، ويدخل مرحلة المقايضات الكبرى في الظل. ان ما يحدث اليوم ليس اتفاقًا، بل إعادة رسم بطيئة لحدود القوة عبر أزمات تمتد من غزة إلى كييف ومن كاراكاس إلى مضيق تايوان، مرورًا بأفريقيا، حيث كل أزمة مرتبطة بالأخرى، وتصبح أي حرب، مهما كانت صغيرة، جزءًا من مزاد النظام الدولي الجديد، وكل ملف يفتح بوابة لملف آخر، ولمرحلة ترتسم فيها الخرائط على ورقة واحدة، ورقة المصالح الصافية، والتي تحدد شكل القرن الحادي والعشرين.
اما الصين فهي تسعى لمنع أي صفقة ثنائية تستثنيها، وتحاول إيجاد توازن بين دعمها لموسكو وتعزيز حضورها في أوروبا والشرق الأوسط. لكن أوروبا المستنزفة اقتصادياً، تشعر اليوم بانها الأكثر هشاشة وتخشى أن تكون ضحية أي تفاهمات دولية لا تأخذ بعين الاعتبار امنها ومصالحها.
حرب غزة، التي كشفت تراجع الردع الأميركي والإسرائيلي في المنطقة، ساهمت في صعود نفوذ لقوى أخرى في المنطقة، منها العالمية والإقليمية، وأصبحت المسرّع الأكبر لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، لا بل النظام العالمي ككل.
وسط ذلك، يجد الأردن نفسه في موقع حساس، إذ ترتبط الضفة وأمن القدس مباشرة بأمنه القومي، ما يدفعه لتكثيف الدبلوماسية، وتثبيت خطوطه الحمراء لفرض حضوره، واستخدام أوراق الموقع الجيواستراتيجي، والامن والحدود والإرهاب وغيرها، لمنع استبعاده من اية ترتيبات يصنعها الآخرون لما بعد الحرب.
والسؤال الذي سيحدد شكل القرن المقبل ليس من يربح الضفة الغربية أو الدونباس في ظل بيئة عالمية تتجاوز حدود القانون الدولي؟ بل من يملك القدرة على منع الآخرين من إعادة رسم الخرائط من دونِه! وهذه هي أخطر صيغة يمكن أن تواجهها بعض الدول وخاصة التي تعاني من أزمات اقتصادية.
في لحظات الاضطراب العالمي، تصبح الجغرافيا السياسية أشبه بطاولة بلياردو تتحرك فيها الكرات ببطء، لكنها حين تصطدم تُعيد تشكيل المشهد الدولي. اليوم تتقاطع جبهتان، مع انهما تبدوان متباعدتين جغرافيًا، لكنهما متصالبتان في بنية النظام الدولي، الأراضي الفلسطينية واراضي الدونباس الاوكرانية. الأولى قلب الصراع العربي الإسرائيلي وخزان الشرعية السياسية في الشرق الأوسط، والثانية بوابة روسيا نحو أوروبا وساحة الاشتباك الأكثر سخونة بين موسكو والغرب. وبينهما تتحرك القوى العظمى بأدوات دقيقة، يرافقها صعود فرضية المقايضات الكبرى بينهما، وحديث عن اتفاق روسي أميركي، البعض منها معلن، ولكن أكثرها في الظل، لإعادة رسم حدود النفوذ في الشرق الأوسط وشرق أوروبا. بينما تدفع المنطقة العربية ثمنًا مباشرًا لكل تغير في الإيقاع العالمي. كم ويربط البعض بان الأزمة بين واشنطن وكاراكاس الحليف الروسي في الجزء الغربي من الكرة الأرضية، جزء من المشهد ذاته.
رغم اختلاف السياق، بين قضية الأراضي الفلسطينية واراضي الدونباس، الا انهما تمثلان عقدتين مركزيتين في رسم ملامح المستقبل الجيوسياسي العالمي.
الاراضي الفلسطينية هي قلب صراع الشرق الاوسط، ولها وزن روحي وسياسي وجيواستراتيجي لا مثيل له، فهي الجسر بين الأردن وإسرائيل، ومحور رئيسي في علاقات واشنطن مع العرب. كما وترتبط مباشرةً بالأمن القومي الأميركي والإسرائيلي، والأردني وبمستقبل النفوذ الإيراني والتركي والترتيبات مع الخليج العربي.
اما الدونباس الاوكرانية، فهي خط التماس الأهم بين روسيا وحلف الناتو، وبوابة لمستقبل أوروبا الشرقية، وخزان للثروات الطبيعية، وميدان يحدد قدرة موسكو على فرض رؤيتها الإقليمية، وسقوطها أو ثباتها يعيد تعريف حدود القوة الروسية.
من يملك النفوذ في هاتين الجبهتين يمتلك أثمن مفاتيح القوة في القرن الحادي والعشرين. فكلا المنطقتين إذًا ليستا مجرد أزمات محلية، بل نقاط ارتكاز لنظام عالمي جديد اخذ في التشكل، ومن يسيطر عليهما يملك أثمن أوراق النفوذ الجيوسياسي على الكوكب.
والسؤال، هل تسمح الأقطاب الدولية بالسيطرة الكاملة لأحدهما وامتلاك الأوراق الجيواستراتيجية فيهما بالكامل؟
الوقائع على الطاولة تشير إلى أن النموذج الجديد في العلاقات الدولية لم يعد يقوم على اتفاقات شاملة وواضحة، بل على تفاهمات صامتة تعيد توزيع النفوذ قطعة قطعة، وفق موازين القوة لا القانون الدولي.
على المستوى الأمريكي الروسي، تظهر البيانات، بان هناك تنسيق صامت، ولكن ليس اتفاقًا مكتمل الأركان. وليس سرًا أن معظم القوى العظمى تتبادل الرسائل عبر ساحات الصراع أكثر مما تفعل في غرف التفاوض، او عبر البيانات الرسمية.
ان بوادر التنسيق تظهر من خلال العمل على تقليل حدة التصعيد المباشر بين أميركا وروسيا بالرغم من استمرار الحرب في أوكرانيا، وهو ما يذكّر بنمط إدارة الأزمة لا حلّها، يرافقه التغاضي الأميركي النسبي عن بعض التقدم الروسي في جبهات القتال، مقابل تركيز الإدارة الامريكية بدرجة أكبر على الجبهة الشرق أوسطية، والبعض يعتقد بان واشنطن أرسلت لموسكو رسالة غير مباشرة، مضمونها ان أوكرانيا ليست أولوية امريكية قصوى الآن (خاصة بعد توقيع اتفاق استغلال الثروات مع اوكراني)، فأولوية التركيز على الشرق الأوسط، والمتمثلة في ساحة غزة والضفة الغربية وبصورة غير مسبوقة.
ان بعض المعطيات تشير الى ان ما يعطّل الاتفاق الكامل بين روسيا وامريكا للبدء بتنفيذ الخطة، هو الطلبات الروسية مرتفعة التكلفة، والتي منها طلب ضمانات مكتوبة حول عدم توسع الناتو نهائيًا شرقًا، وإزالة أي نوع من التهديد الغربي في شرق أوروبا للأمن الروسي. وبذات الوقت أمريكا تريد تعهداً روسياً يحدد سقف الطموحات الروسية في الشرق الأوسط وإفريقيا وقد تصل الى أمريكا اللاتينية. بينما إسرائيل نفسها لا تريد صفقة كونية تؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية، او حتى تقديم اية تنازلات في ملف الضفة الغربية.
النتيجة الظاهرية، تشير إلى ان هناك تفاهمات موضعية تتغير حسب اللحظة السياسية، فواشنطن، المنشغلة بخطة غزة، بحاجه إلى تهدئة نسبية في الدونباس. أما موسكو، المرهقة من استنزاف طويل، فهي بحاجة إلى مساحة مناورة أكبر في الشرق الأوسط. ان ما يجمع الطرفين ليس التفاهم، بل الإدراك المشترك بأنّ فتح جبهة صراع كبرى جديدة سيكلّفهما أكثر ممّا سيكسبانه، وبالتالي يبقى المشهد محكومًا بتفاهمات رمادية، لا اتفاق ولا صدام شامل، بل إدارة دقيقة للهزّات، الى ان تحين لحظة الوصول الى صفقة كبرى تحقق طموح الطرفين.
السؤال الذي قد يطرح ماذا عن الصين؟ في ظل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة في كانون اول 2025 تحت عنوان "أمريكا أولاً، والتي تعتبر فيها الصين منافساً قوياً، الا ان التركيز العسكري الأميركي على آسيا يُعاد موازنته، فالأولوية الآن ليست تفكيك النفوذ الصيني في كل مكان، بل تحقيق معاملة اقتصادية بالمثل، وتقليل الاعتماد على سلاسل توريد الخصوم.
الصين، ببراغماتيتها الثقيلة، تلتقط الإشارة، وهي لا ترغب برؤية صفقة ثنائية تعيد ترتيب النظام الدولي من دونها. مصلحتها في استمرار الضغط على واشنطن واستنزاف موسكو بشكل لا يؤدي لانهيارها. ولذلك، فهي تُبقي قناة دعمها لروسيا مفتوحة، دون الانخراط في حرب مباشرة، وتظهر دعمًا للقضية الفلسطينية يعزّز من حضورها العربي، وترفض أي تفاهم أميركي روسي يستثنيها، لأنه يقيد من قدرتها على التمدد، لذا فهي تحاول كسر أي مسار يؤدي إلى تفاهم شامل بين واشنطن وموسكو.
كما ان الصين ترى أن كل فوضى تُضعف واشنطن، وكل سباتٍ عسكري يستنزف روسيا، يصب في مصلحتها، وهي بذلك تنطلق من نظرية "كل حرب تُضعِف قوة منافس، وكل أزمة تطيل أمد الفوضى، تمنحها مزيدًا من الوقت لتصبح القطب الاقتصادي والسياسي الأول عالميًا". وكأنها اللاعب الذي يراقب من أعلى، فهي تريد عالمًا بلا صفقة كونية ثنائية (أميركية روسية)، بل تريد نظامًا ثلاثيًا تكون فيه لاعبًا موازيًا وليس ثانوياً.
اما أوروبا، التي اعتمدت على دعم الولايات المتحدة في الحرب الأوكرانية، وتعتمد على الشرق الأوسط في الطاقة (بعد ان كانت اعتمادها على روسيا)، وعلى الاستقرار العالمي لاقتصادها، وتخشى أن تتحول الضفة الغربية إلى بؤرة انفجار تهدد أمن المتوسط وامن الطاقة معاً. فأوروبا، القارة التي تدفع فاتورة الحرب في أوكرانيا، وتدرك أن أي مقايضة بين موسكو وواشنطن قد تتم على حسابها. لهذا السبب تبدو أوروبا الأكثر تشددًا في دعم أوكرانيا، والأكثر حساسية تجاه ما يجري في الشرق الأوسط، لأنها لا تريد أن تصبح ضحية صفقة لا تصنعها بيدها، او لا تشارك فيها على الاقل، وتظهر حساسية لأي تفاهم دولي قد يجعل مصالحها وقودًا في لعبة هي ليست طرفاً فيها، وتبدوا اليوم الأكثر هشاشة من أي وقت مضى.
في خلفية هذا المشهد الدولي المتصدّع، يطلّ عنصر آخر لا يقلّ أهمية، وهو محاولة التنسيق الصيني الأوروبي، والذي قد يتصاعد بهدوء، وكأنه حركة جيواستراتيجية تستعدّ لتغيير موازين القوى دون إطلاق رصاصة واحدة. فالصين، التي تقرأ العالم بعيون الاقتصاد، وحسابات القوة الصاعدة، تدرك أن مستقبل نفوذها لن يُبنى فقط في بحر الصين الجنوبي أو في آسيا الوسطى، بل أيضًا في العواصم الأوروبية التي تحتاجها بكين كمنفذ للتكنولوجيا والأسواق والاستقرار التجاري، ولتقليص اعتمادها على السوق الأمريكية وتوزيع المخاطر الجيوسياسية.
لذلك، فإن بكين ترى ان تعزيز التنسيق مع أوروبا ليس خيارًا تكتيكيًا فحسب، بل قد يكون تحوّل استراتيجي طويل الأمد في حال نجحت فيه.
ومع ذلك، فإن هذا الانفتاح الصيني على بروكسل، لن يكون على حساب موسكو. فالصين ترى في روسيا شريكًا استراتيجيًا لا يمكن التفريط به، كمصدر للطاقة الرخيصة، وعمقًا جيوسياسيًا يخفّف عنها عبء المواجهة المباشرة مع واشنطن، وركنًا ثابتًا في لعبة التوازنات الكبرى.
وبكين تعمل جاهدة لعدم التخلي عن أوروبا، وروسيا معاً، بل تعمل على اتقان فن التوازن الناعم، تنسّق اقتصاديًا مع الاتحاد الأوروبي، وتتقارب سياسيًا مع موسكو، وتحاول إبقاء واشنطن في حالة ارتباك دائم. فهي اليوم، ليست في موقع يسمح لها باختيار طرف واحد.
لكن ما تفعله الصين، هو استراتيجية توازن متعدد المستويات يقوم على الفصل بين التعاون الاقتصادي والسياسي مع أوروبا (تعاون اقتصادي واسع، وحوار سياسي محسوب)، ومع روسيا تقارب سياسي واستراتيجي وتعاون اقتصادي موجّه للطاقة والدفاع، مع عدم تبنّي الرواية الروسية بالكامل.
لذلك نجد الصين، تدعم موسكو لفظيًا في مواجهة الغرب، لكنها لا تعترف علنياً بضمّ أراضي الدونباس، ولا تقدم مساعدات عسكرية بشكل مباشر لروسيا. فبكين تحرص على ألّا تتحوّل إلى طرف في الصراع مع الغرب، بل إلى قوة وسيطة ضمنية، من خلال تقديم نفسها لأوروبا كطرف عقلاني، وكشريك قابلًا للتفاهم، وتستثمر في الانقسام الأوروبي الداخلي بين المعسكر البراغماتي (ألمانيا وفرنسا)، والمعسكر المتشدد (بولندا ودول البلطيق)، مما يسمح لها بتوسيع هامش المناورة دون خسارة موسكو.
فالصين لا تستطيع ولا ترغب قطعاً بالتخلي عن روسيا، لأنها الورقة الوحيدة التي تضمن عدم انغلاق آسيا عليها. لذلك فهي تدير علاقتها مع موسكو كرأسمال استراتيجي ثابت.
ومع كل ذلك فان السيناريو الوحيد الذي قد يجعل الصين تتحرك للتنسيق مع أوروبا ضد روسيا هو، أن تدفع الحرب الأوكرانية روسيا نحو ضعف استراتيجي كبير بحيث تصبح عبئًا على الصين بدل أن تكون رصيدًا لها. الا ان هذا السيناريو حتى الآن، يبدو ضعيفاً جداً في ظل توسع التقدم الروسي في الأراضي الأوكرانية. وهذا يعني ان الصين لا تنحاز لطرف واحد، بل تنحاز لمصلحتها فقط.
فالصين ترى في روسيا جزءًا من معادلة التوازن الدولي، لا من معادلة التكلفة.
اليوم، وحيث تتقاطع جبهات العالم من الضفة الغربية إلى الدونباس، تبدو الصين اللاعب الوحيد الذي يربح من الجميع دون أن يدفع ثمنًا مباشرًا.
في ذات الوقت، الولايات المتحدة، تعيد النظر في اهتماماتها بأمريكا اللاتينية كجزء من النصف الغربي للكرة الأرضية، على حساب بقية أجزاء العالم، وهي بذلك تُعيد إحياء عقيدة مونرو، التي تعتبر المنطقة مجال نفوذ حصري للولايات المتحدة، وبالتالي على واشنطن أن تضمن أمنها القومي من خلال التركيز على مكافحة الهجرة، والجريمة، وتهريب المخدرات، باعتبارها تهديداً مباشراً للأمن الأميركي (أي أن أمن الحدود والهجرة أصبحت محاور أساسية للسياسة الخارجية)، والاستثمار في الثروات الطبيعية الهائلة للقارة، عبر فرض سيطرتها على المحيط الغربي، وحماية المنطقة من النفوذ الروسي أو الصيني.
ويبدوا ان ما يجري مع فنزويلا، بداية للتطبيق المباشر للخطة الامريكية، وهي التي ينظر اليها كأحد أدوات موسكو في تحدي النفوذ الأميركي غرب المحيط، مع التلويح بها كجزء من لوحة المقايضات العالمية، مما يعني ان أي توتر مع فنزويلا بمثابة رسالة روسية للولايات المتحدة في حديقتها الخلفية.
كما انه كلما احتاجت أميركا تهدئة في الشرق الأوسط أو ضغطًا أكبر على روسيا، تصبح فنزويلا ورقة للمساومة، من حيث تخفيف الضغط، مقابل تعاون نفطي يحدّ من قدرة روسيا على استخدام نفطها كورقة ضغط اضافيه. وبذات الوقت روسيا تشجّع مادورو على التصعيد كلما أرادت مضايقة واشنطن في الظرف السياسي الحرج. بهذا المعنى، فنزويلا ليست أزمة منفصلة، بل صندوق أدوات للضغط المتبادل وجزء من لعبة النفوذ العالمية بين واشنطن وموسكو.
أمريكا، لم تعد ترى في منطقة الشرق الأوسط ذلك المحور الاستراتيجي، كما في العقود الماضية، والسبب، في تراجع الاعتماد الأميركي على نفط المنطقة، مما يقلل أهميتها كجغرافيا استراتيجية، لكن بعض المصالح السياسية والحيوية تبقى قائمة وبقوة، مثل أمن إسرائيل، حرية الملاحة عبر مضائق الشرق الأوسط البحرية (الخليج العربي وباب المندب وقناة السويس)، لتامين خطوط التجارة العالمية.
ان هذه الاستراتيجية، قد تؤدي الى زيادة الضغط على الدول الإقليمية لتحمل مسؤولية أمنها، او القيام بتحالفات إقليمية، بدل الاعتماد على واشنطن بالكامل.
ان دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قد يصبح أكثر تركيزاً على المصالح، ودعم حلفاء معينين بدلاً من الانخراط الكامل في إدارة ألازمات أو الصراعات الشرق أوسطية، والتي لا تنتهي.
لكن في المقابل، قد تفتح هذه الفرصة لدولة مثل إيران أو قوى إقليمية أخرى لإعادة رسم التوازن الذ يناسبها، خاصّة إذا رأت أن الحماية الأميركية أقل جدّية. لكن هذا يتوقف أيضاً على سياسات إيران وخصومها والقوى الإقليمية الأخرى الصاعدة.
السؤال هنا، هل كانت حرب غزة المسرّع الأكبر لإعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط؟
ان حرب غزة لم تكن حدثًا إقليميًا، عمل على إعادة التفكير في خارطة الشرق الأوسط فقط، بل غيّرت الحسابات الدولية برمتها، وأصبحت مسرّعًا عالميًا يضغط على ثلاث دوائر رئيسية. أولها، الاقتصاد العالمي، حيث كان لها تأثير مباشر على أسعار الطاقة، وسلاسل الإمداد، ومعنويات الأسواق، ما أجبر واشنطن وأوروبا على إعادة ترتيب أولوياتها المالية. ثانيها، الأمن الشرق أوسطي، حيث أصبح الاستقرار الإقليمي على رأس أجندة العالم، لضمان أمن الملاحة في البحر الأحمر، والحدود المصرية الإسرائيلية، ومستقبل الضفة الغربية، وحسابات إيران والخليج. وثالثها، الحسابات الاستراتيجية بين القوى الكبرى، حيث واشنطن وجدت نفسها أمام اختبار وجودي في الشرق الأوسط، ما دفعها إلى مضاعفة اهتمامها بملف غزة، خشية أن تفقد السيطرة لصالح المحور الروسي والصيني والمتحالف ظاهرياً مع الإيراني.
ان من يراقب التحولات منذ اندلاع حرب أوكرانيا ثم حرب غزة، التي تحولت إلى زلزال جيوسياسي، حيث اكتشف العالم هشاشة التحالفات، وتراجع الردع الأمريكي، وصعود موسكو وبكين كقوتين قادرتين على إرباك الحسابات الإسرائيلية – الأمريكية، إذا وجدتا ذلك ضرورياً. فالمعركة كشفت وجود فجوة في صورة القدرة الأمريكية على إدارة ملف الصراع في الشرق الأوسط.
ان المراقب، يلاحظ أن واشنطن وموسكو رغم العداء العلني الذي كان معلن، الا ان الغزل السياسي المتبادل في الآونة الاخرة، وكأنهما تسيران نحو قواعد اشتباك تضمن لكل طرف مكاسبه الأساسية، حتى وإن بدت الساحة مشتعلة. وفي مثل هذه الحظة، لا غرابة أن تصبح الضفة الغربية ملفًا تفاوضيًا غير معلن في حسابات القوى الكبرى.
فروسيا تريد اعترافًا ضمنيًا بسيطرتها على اراضي الدونباس الأوكرانية وشبه جزيرة القرم، وأمريكا تريد ضبط اقليم الشرق الأوسط لصالح أمن إسرائيل وإعادة هندسته بما يضمن مصالحها وبأقل تكلفة.
وهكذا ظهرت معادلة غير مكتوبة، تخفيف الضغط على روسيا في أوكرانيا مقابل قبول موسكو بتحرك أمريكي أوسع في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل. فالامتناع الروسي عن التصويت على الخطة الأمريكية الخاصة بغزة، بعد اتصالات بين ببوتين ونتنياهو قبل التصويت على مشروع القرار الأمريكي، كان واضحًا أن تل أبيب تسعى لمنع روسيا من استخدام الفيتو في مجلس الأمن رغم امتلاك موسكو لمشروعها الخاص، والمغاير للنهج الأميركي، وهذا القرار، لم يكن تفصيلًا عابرًا.
فامتناع روسيا عن التصويت لم يكن مجاملة لواشنطن، ولا خضوعًا لرغبة إسرائيل، بل جزءًا من ثلاثة اعتبارات رئيسية، وهي عدم التصادم المباشر مع واشنطن في لحظة حساسة عالميًا، والحفاظ على قناة تواصل مع إسرائيل التي تريد موسكو إبقاءها مفتوحة، وترك الباب مفتوحًا لدور روسي في الشرق الأوسط بعد الحرب.
لذلك اختارت روسيا التموضع الرمادي، لا تأييد للخطة الأميركية، ولا اعتراض كامل عليها، فبذلك يكون تفسير امتناع موسكو عن التصويت، ليست بالمؤامرة، ولكن ليس بالصدفة أيضاً.
ان نتائج الاتصال دفعت كثيرين للظن أن صفقة ما تُطبخ في الخفاء، وهل كان الثمن فلسطين؟ لكن السؤال الأخطر هو ما المقابل؟ وهل حصلت موسكو على ضمانات بشأن أوكرانيا؟ وهل حصلت إسرائيل على التزام روسي بعدم عرقلة خطتها في غزة والضفة؟ وهل التزم نتنياهو بتمرير رسائل معينة تتعلق بالوجود الإيراني؟ وهل يمكن أن نتحدث عن مقايضة كبرى حصلت؟
فالصمت الروسي بعد المكالمة أعطى الإجابة، هناك شيء ما حدث، ولكن لم يُعلن عنه حتى الآن.
الفرضية التي تنتشر اليوم تقول إنّ روسيا قد تقبل بالاكتفاء بأراضي بالقرم والدونباس، وبتجميد الوضع في باقي الأراضي الأوكرانية، مقابل قبول أميركي بتجميد الوضع في الضفة الغربية أو العكس.
لكن الحقيقة الجيواستراتيجية أكثر تعقيدًا، فالضفة الغربية ليست ملفًا يمكن أن تتخلى عنه واشنطن أو إسرائيل مقابل أي تنازل روسي، والدونباس بالنسبة لروسيا ليس مساحة جغرافية، بل خط دفاع استراتيجي، والصين ستعرقل أي صفقة لا تكون جزءًا منها، وأوروبا لن تقبل أن يتم حلّ أزمة أوكرانيا خارج إطار مصالحها.
بمعنى آخر، المقايضة المباشرة غير ممكنة، لكن المقايضة غير المباشرة ممكنة جدًا.
في ظل هذا المشهد، أصبح من المستحيل فصل موضوع الضفة وغزة، عن القضية الاوكرانية، أو فصل القضية الأوكرانية عن الفنزويلية، وبالتالي هناك نظام عالمي كامل يُعاد تشكيله كارتداد لحرب غزة.
من الواضح أن حرب غزة، جعلت من الشرق الأوسط مركزاً لصراع القوى الكبرى أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة، حيث ان إسرائيل تريد ضمانة أميركية كاملة، وإيران تريد تثبيت نفوذها عبر اذرعها، وروسيا تريد توسيع دورها في سوريا واحواض المياه الدافئة، والصين تريد ممرّات التجارة والطاقة والاستثمار، والخليج يريد استقرارًا يحمي طاقته وممراته، والأردن يجد نفسه اليوم في قلب المعادلة الأصعب منذ عقود، حيث ان أي ترتيبات تخص غزة والضفة ستنعكس مباشرة على الأمن القومي الأردني، ديموغرافيًا (التوازن السياسي الداخلي)، وسياسيًا وحدوديًا. ويرى الأردن ان أي حلول خارج إطار الدولة الفلسطينية تعني تهديدًا للمكانة الأردنية في القدس، وان أي ترتيبات اقتصادية أو أمنية لغزة خارج دور الأردن تعني استبعاده من إعادة رسم المنطقة. لهذا أعلن الأردن بوضوح، لا تهجير، ولا توطين، ولا حلول خارج إطار الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذه بالنسبة للأردن ليست شعارات، بل خطوط دفاع وجودية.
فالضفة الغربية، بالنسبة للأردن ليست مجرد ملف جارٍ، بل هي امتداد أمن قومي مباشر، وان أي ترتيبات تخص مستقبلها سواء في صفقة أمريكية - روسية أو في هندسة جديدة للشرق الأوسط، لا يمكن أن تتم من دونه، وهذه ليست رسالة سياسية، بل رسالة وجودية، وبخلاف ذلك ستدخل المنطقة في فوضى إستراتيجية.
فالخطر الحقيقي لا يكمن في قرار مجلس الامن، بل في وجود مشاريع تؤسس لمرحلة ما بعد غزة، وأحاديث في غرف مغلقة حول ماهية شكل السلطة الفلسطينية القادم، وسيناريوهات انتقال السلطة الأمنية في الضفة إذا تغيرت المعادلة الإسرائيلية الداخلية، ومحاولات إقليمية على حساب الدور الأردني في الملفات الفلسطينية المختلفة، متناسياً بان الأردن هو من يملك الشرعية والأوراق التي لا يملكها أحد غيره.
كل ذلك يجعل السؤال الأردني، كيف للأردن ان يحمي نفسه من أن نصبح مستبعدًا في لحظة إعادة تشكيل الشرق الأوسط؟
امام كل هذا، فالأردن بقيادة الملك، لم يقف مكتوف الايدي لحماية دوره ومنع استثنائه، فهناك تحرك دبلوماسي متعدد المسارات، والحفاظ على شراكات متوازنة مع واشنطن وموسكو وبكين وأوروبا والخليج، واستعادة دوره المركزي في الملف الفلسطيني، وتقديم رؤية أردنية واضحة للحل النهائي وجوهرها، دولة فلسطينية، وأمن الحدود، ودور أردني في الوصاية وملف القدس.
كما يعمل على تثبيت موقف داخلي موحّد، من اعداد وثيقة وطنية تشمل الخطوط الحمراء الأردنية، لتكون أساسًا لاي تفاوض قادم، وتمنع الضغط الخارجي عبر اختراق الداخل. وهنا أصبح من الضرورة تقديم عرض عملي للعالم، وبمشاركة أردنية في برامج إعادة الإعمار، وإدارة المعابر الإنسانية، ودور أمني لوجستي دون انخراط عسكري مباشر في غزة، والعمل بقوة لصياغة موقف إقليمي موحّد يحمي مصالح دول الجوار ويمنع فرض حلول خارج إرادة المنطقة.
الا ان الأردن اليوم بأمس الحاجة الى تمتين جاهزية الدولة داخليًا، من حيث تعزيز قدرات الأمن والاقتصاد والحدود لاستيعاب أي طارئ ناتج عن ترتيبات ما بعد غزة، وتفعيل أدوات القوة الناعمة، وتصدير سردية أردنية مستقلة حول مستقبل الضفة والدولة الفلسطينية، والإسراع في اصلاح التعليم والإدارة العامة فعلاً لا قولاً، فالمرحلة ليست مرحلة شعارات لإحداث ضجيج سياسي، بل مرحلة أوراق وافعال.
لكن الحقيقة أن بعض القوى الإقليمية والدولية تحاول القفز فوق الدور الأردني، إما بدافع النفوذ أو بدافع إعادة رسم خريطة التحالفات لتعزيز نفوذها، واضعاف الاخرين.
وبين كل ذلك تتحول الضفة الغربية وغزه إلى ساحة رسائل استراتيجية بين الجميع، تمامًا كما تحولت الدونباس ساحة رسائل بين واشنطن وموسكو وبكين واوروبا.
في النهاية يبقى السؤال، هل نحن أمام صفقة كونية عنوانها، الضفة الغربية مقابل الدونباس؟
الجواب الواقعي، ليس بعد، ولكن العالم يسير باتجاه منطق يشبه هذا النوع من المقايضات.
فحرب غزة أعادت تشغيل ماكينة صناعة النفوذ العالمية، والدونباس ما زالت ساحة اختبار لأوروبا وروسيا. وفي الوسط تقف دول مثل الأردن، التي إن لم تبادر وتستخدم اوراقها بقوة، لتفرض حضورها، ستجد نفسها في هامش ترتيبات يصنعها الآخرون.
فالنظام العالمي لم يعد قائمًا على اتفاقات مكتوبة، بل على تفاهمات صامتة، ويدخل مرحلة المقايضات الكبرى في الظل. ان ما يحدث اليوم ليس اتفاقًا، بل إعادة رسم بطيئة لحدود القوة عبر أزمات تمتد من غزة إلى كييف ومن كاراكاس إلى مضيق تايوان، مرورًا بأفريقيا، حيث كل أزمة مرتبطة بالأخرى، وتصبح أي حرب، مهما كانت صغيرة، جزءًا من مزاد النظام الدولي الجديد، وكل ملف يفتح بوابة لملف آخر.
فالعالم يدخل مرحلة جديدة، مرحلة المقايضات الكبرى غير المعلنة، ومرحلة ترتسم فيها الخرائط على ورقة واحدة، ورقة المصالح الصافية، والتي تحدد شكل القرن الحادي والعشرين.
والسؤال الذي سيحدد شكل القرن المقبل ليس من يربح الضفة أو الدونباس؟ بل من يملك القدرة على منع الآخرين من إعادة رسم الخرائط من دونِه؟ وهذه هي أخطر صيغة يمكن أن تواجهها دولة تقع في قلب الشرق الأوسط مثل الأردن، يعاني من أزمات اقتصادية ضاغطة.
وفي هذا الامتحان، يصبح دور الأردن ليس مجرد بندٍ في التفاوض، بل قضية أمن قومي ووجود سياسي لا يحتمل التأجيل.
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/09 الساعة 23:18