عادل تكتب: أوروبا بين الاستراتيجية الأميركية ونداء السيادة الوطنية
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/09 الساعة 09:37
لا يمكن فهم التحركات الأوروبية الأخيرة خارج ظل الوثيقة الثقيلة التي أصدرتها واشنطن قبل أيام: استراتيجية الأمن القومي الأميركية 2025، ذلك النص الممتد على 33 صفحة بدا أشبه بـ كشف حساب قاس للعالم أكثر منه برنامجا دبلوماسيا.
ففي ثنايا الوثيقة، ترد عبارة صدمت المزاج الأوروبي وتركته مكشوفا أمام نفسه والعالم: تحذير من “اندثار حضاري” يهدد أوروبا، وربما اختفاؤها خلال عقدين فقط بحسب الزعيم الأميركي.
لم تكن العبارة مجرد توصيف قاس، بل إفشاء علني لما كان يُقال همسا: أن أوروبا في نظرة الحليف الأكبر لم تعد شريكة ندية، بل قارة تتآكل داخلياً بديموغرافيتها، اقتصادياً، وأمنياً—وتعيش على مظلة لم تعد قادرة على حمايتها. ولأن أوروبا التقطت الرسالة قبل أن تعلن رسميا عبر تقريره، بدأت تتصرّف كمن اكتشف أنه يعيش في زمن انتهى دون أن ينتبه. قارة تبحث عن موقع جديد تحت الشمس، خارج العباءة الأميركية، وربما خارج المدار الاستراتيجي الذي صاغته الحرب الباردة.
لحظة كسر العظم
تتحرك أوروبا اليوم كما لو أنها وصلت إلى العتبة الأخيرة من صبر التحالف. لحظة تشبه “كسر العظم” مع واشنطن: لا لأن العلاقة انهارت، بل لأنها بلغت مستوى من التوتر لم يعد يسمح بترف الإنكار.
في بروكسل، يسود يقين جديد: أن التخلي عن كييف—ولو تكتيكياً—هو إشارة صريحة بأن التخلي عن أوروبا بأكملها ليس أمرا مستحيلا. وأن “الحارس” الأميركي الذي تولى أمن القارة لسبعة عقود لم يعد الحارس ذاته، ولا يحمل الالتزامات نفسها. وضمن هذا الإدراك، يمكن فهم موجة التحركات التي انطلقت الأسبوع الماضي، والتي بدت كأنها إعادة هندسة شاملة للسياسة الخارجية الأوروبية.
باريس… ترسم خطاً خارج الظل الأميركي
أولى الإشارات جاءت من باريس. زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى بكين في ذروة احتدام المواجهة الأميركية–الصينية، وفي وقت كانت فيه واشنطن تضغط على أوروبا لتوحيد الصف ضد الصين، كانت خطوة سياسية محسوبة: باريس تريد أن تفاوض أقطاب النظام الدولي مباشرة، لا عبر وسيط أميركي يحدد إيقاع الدور الأوروبي وسقفه.
إنها محاولة لصياغة “صف أوروبي جديد”، صف لا يخرج عن أوروبا بل يحاول إخراج أوروبا من دور المتلقي.
روما… جنوبا نحو الخليج
أما روما، فاختارت الجنوب. حين أعلنت جورجيا ميلوني من المنامة أن “إيطاليا ستكون بوابة أوروبا إلى الخليج”، لم يكن ذلك مجرد استثمار في لحظة اقتصادية، بل تأسيس لمحور أوروبي–خليجي يوازي المحور الأميركي التقليدي.
ميلوني تقرأ الخارطة الجديدة: الخليج ساحة تنافس رباعي —أميركي–صيني–روسي—أوروبي، وأوروبا لم تعد تريد أن تبقى الملحق الأصغر في هذا التنافس. قمة روما المقبلة قد تكون، إن نضجت، حجر الأساس لهندسة أمنية متوسطية–خليجية جديدة.
برلين ولندن… إعادة اختبار الأطلسي
في الاتجاه المقابل، ذهبت برلين إلى لندن. زيارة الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير كانت أعمق من بروتوكول. فبعد البريكست، تحاول أوروبا وبريطانيا اختبار إمكانية بناء دائرة أطلسية مرنة لا تمر بالكامل عبر واشنطن. يدرك الطرفان أن الولايات المتحدة أصبحت أقل التزاماً بتحالفاتها التقليدية، وأن وقت بناء “شبكة أمان أوروبية–بريطانية” قد حان.
دبلن… الأطراف التي تتحول إلى مركز
زيارة رئيس المجلس الأوروبي إلى دبلن غداً الثلاثاء لم تخرج من الفلك ذاته، بل محطة سياسية محسوبة تحمل في جدول أعمالها ملفات شديدة الحساسية: من مستقبل الحدود الأيرلندية–البريطانية بعد البريكست، إلى تعزيز تماسك السوق الأوروبية الموحدة، مروراً بالنقاشات المتعلقة بالأمن السيبراني والهجرة وتنسيق المواقف داخل الاتحاد استعداداً لقمة الربيع.
إنها زيارة تقول بأوضح العبارات: أوروبا بدأت جمع أطرافها قبل أن تعيد تشكيل مركزها، وتعتبر أن الأطراف لم تعد هوامش، بل عقدة يجب شدّها قبل إعادة رسم الخريطة كلها. فإيرلندا، تلك الدولة الواقعة عند أطراف الجغرافيا الأوروبية، أصبحت في قلب النقاش الاستراتيجي.
قارة تفتح خرائطها القديمة
ما يجمع هذه التحركات أنها لم تعد تُقرأ كملفات متفرقة، بل كجزء من محاولة أوسع لإعادة رسم موقع أوروبا في العالم. تتحرك شرقاً نحو بكين، جنوباً نحو الخليج، غرباً نحو لندن، وشمالاً نحو دبلن. قارة تفتح خرائطها القديمة لتعيد ترتيب اتجاهاتها في عالم لم يعد المدار الأميركي فيه كافياً أو مضموناً.
لقد فهمت أوروبا، متأخرة وربما أخيراً، أن البقاء في فضاء التبعية لم يعد يحميها، وأن عليها أن تتعلم الوقوف وحدها قبل أن تسقط المظلة الأميركية بالكامل.
السؤال الذي لا يملك أحد ترف الهروب منه
هل تبني أوروبا استراتيجيتها الجديدة لأن الزمن أخيراً نضج، أم لأنها سمعت في ثنايا الوثيقة الأميركية صفيراً خافتاً يشبه صفير الانسحاب؟
هل تدفعها الشجاعة إلى إعادة تشكيل ذاتها، أم يدفعها الخوف من أن يجد القارة العجوز نفسها وحيدة في ليلة عاصفة تنطفئ فيها جميع المظلّات؟ فهل يمكن لقارة تبحث عن سيادتها أن تتنفس الحرية تحت يد حليفٍ قادر — في لحظة انتخابات أو نزوة سياسة — على أن يكتم أنفاسها؟ أوروبا اليوم لا تسأل عن مستقبل النظام الدولي، بل عن مستقبلها هي: هل تستيقظ قبل أن تدير واشنطن ظهرها… أم تكتشف، متأخرة، أن النجاة لا تُستعار بل تُبنى؟
لم تكن العبارة مجرد توصيف قاس، بل إفشاء علني لما كان يُقال همسا: أن أوروبا في نظرة الحليف الأكبر لم تعد شريكة ندية، بل قارة تتآكل داخلياً بديموغرافيتها، اقتصادياً، وأمنياً—وتعيش على مظلة لم تعد قادرة على حمايتها. ولأن أوروبا التقطت الرسالة قبل أن تعلن رسميا عبر تقريره، بدأت تتصرّف كمن اكتشف أنه يعيش في زمن انتهى دون أن ينتبه. قارة تبحث عن موقع جديد تحت الشمس، خارج العباءة الأميركية، وربما خارج المدار الاستراتيجي الذي صاغته الحرب الباردة.
لحظة كسر العظم
تتحرك أوروبا اليوم كما لو أنها وصلت إلى العتبة الأخيرة من صبر التحالف. لحظة تشبه “كسر العظم” مع واشنطن: لا لأن العلاقة انهارت، بل لأنها بلغت مستوى من التوتر لم يعد يسمح بترف الإنكار.
في بروكسل، يسود يقين جديد: أن التخلي عن كييف—ولو تكتيكياً—هو إشارة صريحة بأن التخلي عن أوروبا بأكملها ليس أمرا مستحيلا. وأن “الحارس” الأميركي الذي تولى أمن القارة لسبعة عقود لم يعد الحارس ذاته، ولا يحمل الالتزامات نفسها. وضمن هذا الإدراك، يمكن فهم موجة التحركات التي انطلقت الأسبوع الماضي، والتي بدت كأنها إعادة هندسة شاملة للسياسة الخارجية الأوروبية.
باريس… ترسم خطاً خارج الظل الأميركي
أولى الإشارات جاءت من باريس. زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى بكين في ذروة احتدام المواجهة الأميركية–الصينية، وفي وقت كانت فيه واشنطن تضغط على أوروبا لتوحيد الصف ضد الصين، كانت خطوة سياسية محسوبة: باريس تريد أن تفاوض أقطاب النظام الدولي مباشرة، لا عبر وسيط أميركي يحدد إيقاع الدور الأوروبي وسقفه.
إنها محاولة لصياغة “صف أوروبي جديد”، صف لا يخرج عن أوروبا بل يحاول إخراج أوروبا من دور المتلقي.
روما… جنوبا نحو الخليج
أما روما، فاختارت الجنوب. حين أعلنت جورجيا ميلوني من المنامة أن “إيطاليا ستكون بوابة أوروبا إلى الخليج”، لم يكن ذلك مجرد استثمار في لحظة اقتصادية، بل تأسيس لمحور أوروبي–خليجي يوازي المحور الأميركي التقليدي.
ميلوني تقرأ الخارطة الجديدة: الخليج ساحة تنافس رباعي —أميركي–صيني–روسي—أوروبي، وأوروبا لم تعد تريد أن تبقى الملحق الأصغر في هذا التنافس. قمة روما المقبلة قد تكون، إن نضجت، حجر الأساس لهندسة أمنية متوسطية–خليجية جديدة.
برلين ولندن… إعادة اختبار الأطلسي
في الاتجاه المقابل، ذهبت برلين إلى لندن. زيارة الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير كانت أعمق من بروتوكول. فبعد البريكست، تحاول أوروبا وبريطانيا اختبار إمكانية بناء دائرة أطلسية مرنة لا تمر بالكامل عبر واشنطن. يدرك الطرفان أن الولايات المتحدة أصبحت أقل التزاماً بتحالفاتها التقليدية، وأن وقت بناء “شبكة أمان أوروبية–بريطانية” قد حان.
دبلن… الأطراف التي تتحول إلى مركز
زيارة رئيس المجلس الأوروبي إلى دبلن غداً الثلاثاء لم تخرج من الفلك ذاته، بل محطة سياسية محسوبة تحمل في جدول أعمالها ملفات شديدة الحساسية: من مستقبل الحدود الأيرلندية–البريطانية بعد البريكست، إلى تعزيز تماسك السوق الأوروبية الموحدة، مروراً بالنقاشات المتعلقة بالأمن السيبراني والهجرة وتنسيق المواقف داخل الاتحاد استعداداً لقمة الربيع.
إنها زيارة تقول بأوضح العبارات: أوروبا بدأت جمع أطرافها قبل أن تعيد تشكيل مركزها، وتعتبر أن الأطراف لم تعد هوامش، بل عقدة يجب شدّها قبل إعادة رسم الخريطة كلها. فإيرلندا، تلك الدولة الواقعة عند أطراف الجغرافيا الأوروبية، أصبحت في قلب النقاش الاستراتيجي.
قارة تفتح خرائطها القديمة
ما يجمع هذه التحركات أنها لم تعد تُقرأ كملفات متفرقة، بل كجزء من محاولة أوسع لإعادة رسم موقع أوروبا في العالم. تتحرك شرقاً نحو بكين، جنوباً نحو الخليج، غرباً نحو لندن، وشمالاً نحو دبلن. قارة تفتح خرائطها القديمة لتعيد ترتيب اتجاهاتها في عالم لم يعد المدار الأميركي فيه كافياً أو مضموناً.
لقد فهمت أوروبا، متأخرة وربما أخيراً، أن البقاء في فضاء التبعية لم يعد يحميها، وأن عليها أن تتعلم الوقوف وحدها قبل أن تسقط المظلة الأميركية بالكامل.
السؤال الذي لا يملك أحد ترف الهروب منه
هل تبني أوروبا استراتيجيتها الجديدة لأن الزمن أخيراً نضج، أم لأنها سمعت في ثنايا الوثيقة الأميركية صفيراً خافتاً يشبه صفير الانسحاب؟
هل تدفعها الشجاعة إلى إعادة تشكيل ذاتها، أم يدفعها الخوف من أن يجد القارة العجوز نفسها وحيدة في ليلة عاصفة تنطفئ فيها جميع المظلّات؟ فهل يمكن لقارة تبحث عن سيادتها أن تتنفس الحرية تحت يد حليفٍ قادر — في لحظة انتخابات أو نزوة سياسة — على أن يكتم أنفاسها؟ أوروبا اليوم لا تسأل عن مستقبل النظام الدولي، بل عن مستقبلها هي: هل تستيقظ قبل أن تدير واشنطن ظهرها… أم تكتشف، متأخرة، أن النجاة لا تُستعار بل تُبنى؟
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/09 الساعة 09:37