في التاريخ ما هو أسود من كحل العين

مدار الساعة ـ نشر في 2018/09/27 الساعة 01:15

لا شك أن في تاريخ كل أمة ما هو مشرّف ومشرق، وفيه كذلك ما هو دون ذلك، ونحن تعلمنا الجزء الأول من تاريخنا، وضرب الصفح عن الجزء الثاني، فكانت الصورة أمامنا أننا أمام تاريخ مشرق فقط، وأن أفراده من الملائكة الذين يمشون على الأرض.

درسنا فيما درسناه عن تاريخ أمتنا التليد سير الأبطال الفاتحين، الذين فتحوا الدنيا شرقا وغربا، ولكنّ الصورة التي قُدمت لنا حكت عن حياتهم ما هو إيجابي فقط، وضربت صفحا عن مآسي عاشوها وعانوا منها. وسأستعرض بعضًا من هؤلاء الفاتحين كمثال على ما أقول:

القائد قتيبة بن مسلم الباهلي (49-96هـ) ولد بالبصرة، ودفن في أوزباكستان عن 48 عامًا. وهو قائد الفتوحات الإسلامية في القرن الأول الهجري، في بلاد آسيا الوسطى (خوارزم، وسجستان، وبخارى، وسمرقند، وبلخ، وكاشغر) ولم يصل أحد من المسلمين أبعد من كاشغر (أحد مدن تركستان). لكن كيف كانت نهاية هذا البطل المغوار؟ معلوم أن قتيبة كان من رجال الحجاج بن يوسف، وسليمان بن عبد الملك كان يكره الحجاج، فقام قتيبة بخلع سليمان بن عبد الملك كخطوة استباقية لأي انتقام قد يلحقه من قِبل الخليفة الأموي، لكنها فعلة لم يكتب لها النجاح، ودفع قتيبة ثمنها سهما طائشا أصاب مقتله، ألقاه عليه أعوان سليمان بن عبد الملك، الذين قطعوا رأس هذا الفاتح العظيم، وأرسلوه إلى سيدهم. هذه إحدى روايات التاريخ.

ثم نأتي إلى القائد محمد بن القاسم الثقفي (72-95هـ) ولد في الطائف، ودفن في العراق عن 23 عاما. وهو فاتح بلاد السّند، تولى قيادة الجيوش ولم يتجاوز 17 عاما. ولم يرتكب هذا القائد ذنبا سوى قرابته من الحجاج بن يوسف الذي كان يكرهه سليمان بن عبد الملك، فاستدعي محمد بن القاسم إلى واسط، وأرسل إلى سجنها مقيّدا، وعُذّب فيه بألوان العذاب، حتى فارقت روحه جسده، وانتقل من هذه الدار، وهو في زهرة شبابه.

هذه المكافآت التي قدمت لفاتحي الشرق، فهل كان فاتحو الغرب أحسن حظا؟ فلنتأمل في التاريخ لأخذ الأمثلة منه:

القائد طارق بن زياد (50-101هـ) ولد في المغرب الأوسط، ودفن في الشام عن 51 عاما. قاد الفتح الإسلاميّ لإسبانيا (الأندلس)، وإليه ينسب مضيق جبل طارق، الذي يفصل بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وقد كان هذا المكان منطلقا لفتح الأندلس. استدعاه الخليفة الوليد بن عبد الملك إلى دمشق هو والقائد الفاتح موسى بن نصير (19-97هـ)، وقد كان الوليد يصارع الموت، فلما مات واستلم سليمان بن عبد الملك، قام بعزل القائدين طارق بن زياد وموسى بن نصير، كما وعزل أولاد موسى، وقتل ولده عبد العزيز بن موسى الذي شارك في فتح الأندلس. أما طارق فاختلفت الروايات في نهايته، إلا أنه عزل ولم يعد للعمل العام، وتوارى في الظل. وقيل: إنه صار فقيرا معدما، شوهد وهو يتسوّل في المساجد.

هكذا كانت نهاية أربعة من كبار القادة الذين عرفناهم وأحببناهم، ولكنّ فريقا منا يجهل نهاياتهم المأساوية الأليمة، ولكنه القدر، وليس منه لأحد مفرّ، بذلوا أرواحهم في المعارك، وواجهوا أعداءهم ببسالة منقطعة النظير، لكنهم ماتوا وقهروا بنيران صديقة، نيران الدولة التي عملوا في ظلها وتحت رايتها، قدموا لها وبخلت عليهم، نصروها وهزمتهم، أعزوا ملكها وقهرتهم.

هذه هي لعبة السياسة السوداء، قد تمنح من لا يستحق، وتحرم من استحق، وليس لكل سؤال فيها جواب، والعلم عند الله العليّ الوهاب.

الدستور

مدار الساعة ـ نشر في 2018/09/27 الساعة 01:15