قطار الحكومة وسكة الحوار

مدار الساعة ـ نشر في 2018/09/17 الساعة 14:39
لا أحد يشك في إيجابيات الحوار، ودوره في تبادل الأفكار وتلاقح الرؤى؛ من أجل التوصل إلى الحق أو الحقيقة، أو إلى نقاط اتفاق يمكن البناء عليها؛ لتحقيق مصالح مشتركة. وحتى يؤتي الحوار الثمار المرجوة منه، يجب أن يكون طرفاه على مستوى النـدّيـة؛ من حيث الفهم العميق لموضوع الحوار، ومعرفة خفاياه وخلفياته، ومن حيث القدرة على الالتزام أدبيا، أو قانونيا بما يفضى إليه الحوار، ويتم الاتفاق أو التوافق عليه. قد يكون طرفا الحوار شخصين طبيعيين؛ كالحوار بين فردين ينتميان إلى حقل معين من حقول الاختصاص، سواء كان هذا الحقل سياسيا، أو اقتصاديا، أو اجتماعيا، أو فكريا، أو عقائديا. وقد يكون طرفاه شخصين أو أكثر من الشخوص المعنوية؛ كالحوار بين مجالس النواب والحكومات، وكالحوار بين المؤسسات والشركات، أو بين دولة ودولة أخرى.

وعودا إلى موضوع الندية بين طرفي الحوار، ينبغي التنبه إلى أن الموقف المترتب على ما يفضي إليه الحوار بين شخصين طبيعيين – هو غيره المترتب على الحوار بين شخصين معنويين.

فإذا كانت نتائج الحوار بين فردين/شخصين طبيعيين تقتصر عليهما، وعلى مريدي كل منهما على الأكثر – فإن نتائج الحوار بين شخصين طبيعيين ستنعكس بالضرورة على قطاعات عريضة وواسعة ممن يمثلهم طرفا الحوار.

أقول هذا، وأنا أنظر إلى ما أوقعت فيه الحكومة نفسها، بانحرافها عن الطريق القويم الذي كان ينبغي لها أن تسلكه، وهي تسعى إلى إجراء حوار حول مشروع قانون ضريبة الدخل. كان من الواجب أن يكون الحوار، من حيث الأصل، مع نـدِّ الحكومة الأول، وهو مجلس النواب الذي كان عليه أن يجري، بداية، حوارات مع أهل الاختصاص والخبراء، والأكاديميين القادرين على فهم القانون، وإدراك انعكاساته على شرائح المجتمع المختلفة، وعلى وضع البدائل المنطقية والواقعية لما يرون فيه إجحافا بحق هذه الشريحة أو تلك ؛ إذ لا غنى لمجلس النواب عن الاستعانة بكل المتخصصين لشرح القانون، ووضع اليد على نقاط القوة والضعف فيه، والتماس الحلول والبدائل الممكنة لما يرون فيه مغالاة في المسّ بجيوب متوسطي الدخل والفقراء، أو انحيازا للأثرياء وذوي الدخول العالية، من أفراد وقطاعات. إن نـدّ الحكومة (المفترض) الأول هو مجلس النواب؛ باعتباره ممثلا للشعب أو هكذا يجب أن يكون. ولكن مجلس النواب كمجلس(مع استثناء بعض الآحاد من أعضائه) لم يعد يمثّل لدى المواطنين جهة مؤتمنة على مصالحهم؛ لأسباب، وأسبقيات كثيرة، أقربها أن مشروع القانون هذا، بكامل قيافته، كاد أن يمـر في عهد الملقي من... المجلس بكل سهولة لولا أن الناس تقاطروا على الدوار الرابع؛ رفضا للقانون، وللمجلس، وللحكومة معا، فأطاحوا بالحكومة ورئيسها الذي أصم أذنيه عن صراخ الناس، ولم يبصر درب الآلام التي يقادون فيها، منذ زمن. كما كان على الحكومة، ذاتها، أن تجري هي، أيضا، حوارات حقيقية مع أهل الاختصاص، على أن يكون هؤلاء من (خالي الشهوة)، وغير المتأثرين بالقانون تأثرا يزيد عن تأثر الغالبية العظمى من المواطنين، بمعنى ألا يكون حوارها الأساسي، مثلا، مع أصحاب البنوك، والشركات الكبرى. جاءت حكومة الرزاز على وقع اعتصامات المواطنين على الدوار الرابع، وأعلن الرئيس الرزاز، منذ البداية، سحب القانون المثير للجدل والخلاف، والبدء بحوار حول قانون جديد يرضاه الناس، أو ترضى عنه الغالبية العظمى منهم بعد إجراء تعديلات جوهرية عليه، مع التركيز على تفعيل محاربة التهرب الضريبي الذي يمارسه أفراد متنفذون، ومنشآت، وتتردى في جريمته قطاعات متعددة. كان المأمول أن تحاور الحكومة أهل الاختصاص الذين أشرنا إليهم بالمواصفات المذكورة من الفهم، والقدرة على وضع الحلول والبدائل، والأفكار الإبداعية. وهذا وذاك لا يمنعان، أيضا، من الاستماع إلى (بعض) مؤسسات المجتمع المدني، والنقابات ممن ليس لأعضائها دخول عالية فيها مظنة كبيرة للتهرب الضريبي من جهة، وتمتلك القدرة على تحصيل أضعاف ما يمكن أن يلزمها القانون بتأديته من ضرائب- من عيون الطفارى والمساكين، من خلال رفع أسعار خدماتها. كان بإمكان حكومة الرئيس عمر الرزاز أن تجري حوارها مع الجهات السابقة، على أن تخرج من هذه الحوارات بتوصيات مكتوبة وموثقة؛ من أجل دراستها، وبناء مواد القانون على هدي منها. ولكن الحكومة، بكل أسف، لم توفق في اختيار الطريق السليم لإجراء هذا الحوار؛ لأنها بحسن نية، أو بسوء نية، لم تقم باختيار الأطراف التي يجب أن تحاورها. فكانت كمن يغسل يديه، دون أن يعرف مع من سيأكل. إن إرسال الوفود الحكومية إلى المحافظات والألوية، وفق أسلوب( الجاهة الكريمة) والاجتماع بأشخاص، (ربما) تم انتقاؤهم، فلن يؤدي إلى حوار حقيقي بمعنى الحوار، فمثل هذه الآلية لن تخرج بنتائج حقيقية، إلا إذا كانت الخكومة تريد أن توهم الناس بأنها حاورتهم. ومن الأدلة على فشل الحكومة في اختيار أسلوب الحوار هذا – ردات الفعل الغاضبة التي واجه بها المواطنون أعضاء الحكومة بأشخاصهم ومن يمثلون حينا، وباعتبارهم جزءا من الحكومة فحسب حينا آحر. فأي حوار يمكن أن يتم في أجواء صاخبة كهذه؟ وهل يستطيع صاحب اختصاص ومعرفة في مثل هذه اللقاءات أن يبدي رأيا مسموعا؟ وهل يستطيع أن يضع حلا، أو يبدي اقتراحا ذا جدوى؟؟.
وهل يُعطى مثلُ هذا الإتسان الوقتَ الكافيَ لطرح وجهة نظره العلمية أكثر من الوقت الذي يعطى لغيره من هواة حضور المناسبات، أو من الذين يكتفون بالصراخ، ورفع الصوت بلا مضمون؟ عادت بعض وفود الحكومة إلى عمان من المحافظات والألوية، وسيعود بعضها سالمين غانمين بحمد الله، ولكن بماذا عادوا؟ وبماذا خرجوا من تلك اللقاءات ؟ وما هي تقاريرهم إلى مجلس الوزراء إذا كانت هناك تقارير؟؟ هل عاد بعضهم فرحا بفكرة جديدة؟ ببديل جديد؟ ، بحل إبداعي ؟؟؟ أم أقبل بعضهم على بعض يتلاومون؟ أم يتبادلون التهاني بالسلامة؟. إن فشل الحكومة في التماس الطريق الصحيح للحوار حول قانون ضريبة الدخل، سيؤدي بالجميع إلى المربع الأول، وربما إلى الدوار الرابع، وسنظل ندور في حلقة مفرغة، خصوصا وأن احتجاجات الناس تتعدى القانون كقانون إلى ما وراء القانون من كل ما هو رسمي أو حكومي، وإلى الاختلالات الكثيرة والكبيرة التي لا يشكل هذا القانون إلا عنوانا فرعيا صغيرا من عناوينها الرئيسة الحقيقية.
مدار الساعة ـ نشر في 2018/09/17 الساعة 14:39