
ماذا عن رائحة خلوف فم الصائم؟
مدار الساعة ـ نشر في 2025/03/14 الساعة 22:15
مدار الساعة - السؤال
كيف يمكن الجمع بين الأحاديث التي تدل على كراهة دخول المسجد لمن رائحة فمه كريهة مع الأحاديث التي تنص على أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؟ وما حكم دخول الصائم إلى المسجد ودخول الجماعة إذا كانت رائحة فمه متغيرة من الصوم؟
الجواب:الحمد لله.
أولا:
نهى الرسول صلى الله عليه وسلم من أكل ثوماً أو بصلاً أن يقرب المساجد ، وذلك حتى لا يؤذي الملائكة والمصلين .
فقد روى البخاري (853) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - يَعْنِي الثُّومَ - ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا ) ، وفي لفظ لمسلم (561) : ( فَلَا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ ) .
وروى البخاري (855)، ومسلم (564) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا ، فَلْيَعْتَزِلْنَا ، أَوْ قَالَ : فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا ، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ ) .
وروى النسائي (707) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ [الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ] ، فَلَا يَقْرَبْنَا فِي مَسَاجِدِنَا ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسُ ) ، وصححه الشيخ الألباني في " صحيح سنن النسائي " .
وهذه الأحاديث حملها بعض العلماء على الكراهة ، وحملها آخرون على التحريم .
قال ابن رجب الحنبلي في " فتح الباري " (8/15) :
" ولو أكله – يعني الثوم - ، ثم دخل المسجد كُره له ذلكَ .
وظاهر كلامِ أحمد : أنه يحرمُ ، فإنه قال - في رواية إسماعيل بن سعيد - : إن أكل وحضر المسجدَ أثمَ " انتهى .
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (224633).
ثانيا:
ألحق العلماء بالأمر باعتزال المساجد، كل من أكل شيئا له رائحة كريهة، بحيث يتأذى بذلك من حوله، أو من خرج منه رائحة كريهة، لمرض ونحوه، كمن كان بخَر شديد في فمه، ونحو ذلك مما يصدر منه ما يتأذى به المصلون حوله، ولا يمكنه أن يدفعه أو يتحكم فيه عند الصلاة.
قال الرحيباني رحمه الله:
"وكره حضور مسجد، وجماعته: لآكل نحو بصل أو فجل أو كراث، وكل ما له رائحة كريهة، حتى يذهب ريحه؛ للخبر، ولإيذائه.
وظاهره: ولو لم يكن بالمسجد أحد؛ لتأذي الملائكة.
وكذا نحو من به بَخَر وصُنَّان، وجَزّار له رائحة منتنة.
ويستحب إخراجهم؛ دفعا للأذى " انتهى من "مطالب أولي النهى" (1/699).
ثالثاً:
أما خلوف فم الصائم فلا يدخل في النهي، فإنه ناشئ عن عبادة محبوبة لله جل وعلا؛ ولهذا كان أطيب عند الله، مما يستطيبه الناس ويستحسنون من أطيب العطر عندهم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) رواه البخاري (1795).
ولا يصح قياس "خلوف فم الصائم"، على ما يظهر من الروائح الكريهة، بسبب أكل الثوم أو البصل، أو غير ذلك من الأسباب؛ فإن هذا قياس مع الفارق، بل مع أعظم الفارق. فيكف يقاس خلوف فم الصائم، وهو أثر عبادة محبوبة لله عز وجل، على غيره من الروائح الكريهة المنتنة؟
وهل هذا إلا كما لو قال قائل: إنه لا فرق بين دم الشهيد، الذي هو أزكى عند الله من ريح المسك، ودم النساء، أو الدم المسفوح، أو نحو ذلك؟
على أن الناس، إذا كانوا جميعا صياما، كما يكونون في شهر رمضان؛ فإنهم لا يتكرهون من غيرهم أمرا، يجدونه من انفسهم، ولا يلتفتون إلى ذلك أصلا، كما هو مشاهد.
وإذا كان بعضهم صائما نفلا؛ فلا يكون خلوف فمه، عند الناس، كرائحة آكل البصل والثوم، ونحو ذلك.
قال العيني رحمه الله:
"إنما مدح النبي صلى الله عليه وسلم الخلوف نهيا للناس عن تقزز مكالمة الصائمين بسبب الخلوف، لا نهيا للصوام عن السواك" انتهى من "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (11/ 13).
وقد اختلف أهل العلم في طيب "خُلوف فم الصائم" على ما جاء في الحديث، وهل يجد الناس ذلك الطيب في الدنيا، ويظهر لهم، أم إن ذلك يكون في الآخرة؟
قال ابن القيم، رحمه الله، بعد حكاية الخلاف في ذلك:
"وفصلُ النزاع في المسألة أن يقال: حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك الطِّيب يكون يوم القيامة؛ فلأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال ومُوجِباتها من الخير والشر، فيظهر للخلق طِيبُ ذلك الخُلوف على المسك، كما يظهر فيه رائحة دم المكلوم في سبيله كرائحة المسك، وكما تظهر فيه السرائر وتبدو على الوجوه وتصير علانية، ويظهر فيه قبح رائحة الكفار وسواد وجوههم.
وحيثُ أخبر بأن ذلك "حين يَخْلُف" و"حين يُمْسُون"؛ فلأنه وقت ظهور أثر العبادة، ويكون حينئذ طِيبُها زائدًا على ريح المسك عند الله تعالى وعند ملائكته، وإن كانت تلك الرائحة كريهةً للعباد، فَرُبَّ مكروهٍ عند الناس محبوبٍ عند الله تعالى، وبالعكس؛ فإن الناس يكرهونه لمنافرته طباعهم، والله تعالى يستطيبه ويحبه لموافقته أمره ورضاه ومحبته، فيكون عنده أطيب من ريح المسك عندنا، فإذا كان يوم القيامة ظهر هذا الطيب للعباد، وصار علانية، وهكذا سائر آثار الأعمال من الخير والشر، وإنما يكمل ظهورها ويصير علانية في الآخرة.
وقد يَقْوَى العملُ ويتزايد حتى يستلزم ظهور بعض أثره على العبد في الدنيا في الخير والشر، كما هو مُشاهَدٌ بالبصر والبصيرة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وقوّةً في البدن، وسَعَةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سَوادًا في الوجه، وظلمةً في القلب، وَوَهَنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبِغْضَةً في قلوب الخلق".
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: "ما عمل رجل عملًا إلا ألبسه الله تعالى رداءه، إنْ خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ".
وهذا أمر معلوم يشترك فيه وفي العلم به أصحاب البصائر وغيرهم، حتى إنَّ الرجل الطّيِّب البَرَّ لتشمُّ منه رائحة طيبة وإن لم يَمَسَّ طِيبًا، فيظهر طيب رائحة روحه على بدنه وثيابه، والفاجر بالعكس، والمزكوم الذي أصابه الهواء لا يشمُّ لا هذا، ولا هذا، بل زكامه يحمله على الإنكار، فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب". انتهى، من "الوابل الصيب" (66-68).
وسئل الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: " يوجد في الصيدليات معطر خاص بالفم، وهو عبارة عن بخاخ؛ فهل يجوز استعماله خلال نهار رمضان لإزالة الرائحة من الفم؟
فأجاب: يكفي عن استعمال البخاخ للفم في حالة الصيام استعمال السواك الذي حث عليه صلى الله عليه وسلم، وإذا استعمل البخاخ ولم يصل شيء إلى حلقه؛ فلا بأس به.
مع أن رائحة فم الصائم الناتجة عن الصيام ينبغي أن لا تكره؛ لأنها أثر طاعة ومحبوبة لله عز وجل، وفي الحديث: (خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) " انتهى من "المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان" (3/121).
والخلاصة:
أن تغير رائحة الفم بسبب الصوم لا تمنع دخول المسجد، ولا زال الصحابة ومن بعدهم في القرون المفضلة يفعلونه من غير نكير.
والله أعلم.
مدار الساعة ـ نشر في 2025/03/14 الساعة 22:15