سياسة التهجير الداخلي للفلسطينيين

د. صلاح جرار
مدار الساعة ـ نشر في 2025/02/26 الساعة 01:45

يعدّ التهجير الداخلي للفلسطينيين واحدة من أبرز السياسات العدوانية التي يمارسها الصهاينة في غزّة والضفّة الغربيّة، وقد تجلّى ذلك واضحاً خلال العدوان الصهيوني على غزّة الذي استمرّ خمسة عشر شهراً عندما هجّروا أهل كلّ مدينة إلى مدن أخرى مرّات عدّة ودفعوهم إلى الإقامة في مخيّمات لجوء ونزوح وهم يستمتعون بملاحقتهم من مدينة إلى مدينة ومن مخيّم إلى مخيّم.

كما تتجلّى هذه السياسة العدوانية الصهيونية حالياً في ما يقوم به الصهاينة في مدن الضفّة الغربيّة ومخيّماتها، فقد بلغ عدد المهجّرين عن بيوتهم من سكّان مخيم جنين ومخيم الفارعة ومخيّم طولكرم ومخيّم نور شمس حتّى تاريخ كتابة هذا المقال ما يزيد على ستّين ألفاً من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ والمرضى.
ومع أنّ الصهاينة يدركون أنّ هؤلاء المهّجرين سواءً في غزّة أو في الضفّة الغربيّة ليس أمامهم من خيار سوى تحمّل هذه المعاناة، وبالتالي فإنّ الكيان المحتلّ لا يستفيد شيئاً من هذا التهجير، بل على العكس ربمّا تولّد هذه المعاناة لدى الشعب الفلسطيني مزيداً من المناعة والصمود والتصميم على مقاومة الاحتلال والانتقام منه، ومع ذلك يواصل الصهاينة تطبيق هذه السياسة دون أن يأخذوا في الاعتبار ارتداداتها السلبية المستقبلية عليهم.
وتقف وراء هذه السياسة الاحتلالية العدوانية عدّة دوافع بعضها معلنٌ وبعضها خفيّ، أمّا الدوافع العلنيّة التي يتحدث عنها الإسرائيليون فأبرزها محاولة القضاء على العناصر المسلّحة في المخيّمات خاصّة ونزع أسلحتهم وإحباط مخططاتهم التي تهدف إلى تنفيذ عمليّات ضدّ الإسرائيليين. غير أنّ هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق من خلال تهجير أهالي المخيّمات ونسف البيوت وسرقة محتوياتها، ولذلك فإنّ هذا الهدف الذي يعلنونه ما هو إلاّ ذريعة مكشوفة وكاذبة لتحقيق أهدافٍ أخرى، ومن هذه الأهداف ما يعلنه على الدوام وزراء صهاينة أمثال بن غفير وس?وتريش من الرغبة في احتلال المخيمات وتحويلها إلى معسكرات للجيش الإسرائيلي أو تحويلها إلى مستوطنات يهودية. وهذا الهدف ليس ممّا يمكن تحقيقه بالسهولة التي يتخيّلها هذان الوزيران الأحمقان، ويدرك الصهاينة عدم قدرتهم على تنفيذه بهذه البساطة.
غير أنّ ثمّة أهدافاً ودوافع خفيّة وراء هذا السلوك الاحتلالي الجنونيّ، وأهمّها الرغبة الجامحة في الانتقام من الفلسطينيين لما يسبّبه تشبّثهم بأرضهم التي نشأوا عليها وسكنوها منذ آلاف السنين من إزعاج وقلقٍ وعدم شعور بالأمن والطمأنينة لدى المحتلّين، وما هذا التهجير المتواصل للفلسطينيين سوى محاولة صهيونية لإذاقة هؤلاء الفلسطينيين مرارة عدم الشعور بالأمن والاستقرار الذي يعيشه المحتلّون في أعماقهم ويعانون منه.
إنّ مشهد الفلسطينيين وهم يحملون ما استطاعوا حمله من أمتعة منازلهم من فراش وحقائب وأكياس وهم يسيرون مرهقين بالآلاف ويهيمون على وجوههم باحثين عن مأوى هنا أو هناك وبنادق الجنود الصهاينة مصوَّبة نحوهم هو مشهدٌ يبعث النشوة في نفوس الصهاينة مسؤولين ومستوطنين، ويحرصون على صناعته أو افتعاله أو التسبّب به بين حين وآخر وفي غير مكان من الأرض الفلسطينية، فهو يحقّق لهم رغبة لها ارتباط بعقيدتهم وتاريخهم وشتاتهم من أيام الآشوريين والفرس والرومان والنازيين.
ومن الدوافع الخفيّة الأخرى وراء سياسة التهجير الداخلي أو الخارجي للشعب الفلسطيني، وللشعوب العربيّة الأخرى إن وجدوا الفرصة والذريعة لذلك، رغبتهم في القيام بثأر أو انتقام استباقي لحدث متوقّع، وهذا الحدث المتوّقع هو نجاح الشعب الفلسطيني عاجلاً أو آجلاً في تحرير أرضه المحتلّة والتخلص من المحتلّين وطردهم من أرض فلسطين، وهذا حدثٌ يؤرّق المحتلّين الصهاينة قبل وقوعه لأنّهم موقنون بحدوثه يوماً ما، ولا أشكّ في أنّهم يتخيلون على الدوام مشاهد المستوطنين وهم يحملون ما استطاعوا حمله من أمتعة منازلهم من فراشٍ وحقائب وأكي?س وقوارير في طوابير طويلة نحو البحر كي تقلّهم السفن إلى البلدان التي أرسلتهم لنا. ولعلّ هذا المشهد الذي يخطر ببالهم كثيراً هو ما يدفعهم إلى إسقاطه على الشعب الفلسطيني وتطبيقه على الفلسطينيين قبل حلول موعده اعتقاداً منهم أنّ تكرار هذا المشهد أمام أعينهم وأعين العالم بشكل مألوفٍ ويومي وفاجع قد يكبح جماح الحلم الفلسطيني، أو يكبح جماح القلق الصهيوني، إنّ تكريس الصورة الحالية للتهجير الفلسطيني في مخيّلة اليهود هو محاولة لمحو صورة طرد اليهود المتوقّع عاجلاً أو آجلاً من فلسطين وطبع صورة التهجير الفلسطيني المذلّ ب?لاً منها، وهو تكريس خادع يدرك المحتلّون في قرارة أنفسهم أنّه وهميّ وغير مُجْدٍ، لأنّ التهجير النهائي لن يقع إلاّ على من طرأ على فلسطين واحتلّها وهجّر أهلها ويسعى إلى تهجير من التصق بترابها منهم.
Salahjarrar@hotmail.com

مدار الساعة ـ نشر في 2025/02/26 الساعة 01:45