العدالة الانتقالية في سوريا (2/3)

أ. د. ليث كمال نصراوين
مدار الساعة ـ نشر في 2024/12/22 الساعة 01:01

تتضمن فترة العدالة الانتقالية في الدولة التي تنتقل من حالة الحرب والحكم الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي أربع مراحل مختلفة، أولاها مرحلة الملاحقة الجنائية أو ما يعرف بالعدالة الجنائية، والتي تقوم بموجبها الدولة المعنية بالتحقيق في الجرائم المرتكبة بحق مواطنيها وفرض عقوبات جزائية على المسؤولين عنها. فالتحقيقات مع القادة السياسيين والعسكريين السوريين ومحاكمتهم عما ارتكبوه من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ستسهم في تعزيز سيادة القانون في الدولة بعد انهيار النظام السابق، وستبعث برسالة قوية مفادها أن الجرائم من هذا النوع لن يُسمح بتكرارها مطلقا في المجتمع الديمقراطي المنوي إنشاؤه.

إن الأصل أن تٌجرى الملاحقة القضائية ضمن الإطار القانوني الداخلي السوري خلال مرحلة العدالة الانتقالية، إلا أن واقع المؤسسة القضائية فيها وتفكك إدارات الدولة قد يفرض اللجوء إلى المحاكمات الدولية. فالملاحقة القضائية الدولية في مرحلة العدالة الانتقالية في سوريا قد تأخذ مظهرين اثنين؛ أولهما الملاحقة أمام المحكمة الجنائية الدولية، والتي أنشئت بموجب نظام روما الأساسي لعام 2002، والتي ينعقد لها الاختصاص بالنظر في جرائم محددة على سبيل الحصر من ضمنها جرائم الإبادة الجماعية. فهذا الخيار القضائي مطروح وإن كان يعتريه العديد من الصعوبات الإجرائية الناجمة عن عدم اعتراف كل من سوريا وروسيا التي منحت الأسد حق اللجوء الإنساني بهذه المحكمة الدولية.
أما المظهر الثاني، فيتمثل في الملاحقة القضائية أمام محاكم جنائية دولية خاصة يجري تشكيلها بقرار من مجلس الأمن استنادا لأحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. فقد سبق وأن تقرر إنشاء العديد من هذه المحاكم الجنائية الخاصة أهمها تلك المتعلقة بيوغسلافيا السابقة في عام 1993 ورواندا في عام 1994، والمحكمة الجنائية الخاصة بلبنان في عام 2007 لمحاكمة المتهمين بقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. إلا أن التفكير باللجوء إلى مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار مشابه بتشكيل محكمة دولية خاصة لمحاكمة النظام السوري السابق قد يواجه بمعارضة روسية واستخدام حق النقض «الفيتو» ضد أي قرار دولي بهذا الشأن.
​أما العنصر الثاني من عناصر العدالة الانتقالية الذي يُفترض أن تمر به الدولة السورية بعد سقوط نظامها السابق فيتمثل بمرحلة جبر الضرر، حيث تهدف هذه الفترة من إعادة بناء الدولة والانتقال بها إلى الحكم الديمقراطي إلى تحقيق هدفين رئيسين، أولهما الاعتراف بالأذى الذي تعرض له ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، وثانيهما معالجة الأضرار التي تسببت بها تلك الاعتداءات والإقرار بحق الضحايا في الحصول على التعويض المناسب لجبر الضرر الناجم عن الانتهاكات الجسيمة التي تعرضوا لها.
​إن الأهداف المتوخاة من تدابير جبر الضر تتعدد لتشمل الإقرار بفضل الضحايا في مواجهة الظلم والاستبداد الذي تعرضت له الدولة السورية طيلة العقود الماضية من الزمن، وترسيخ ذكرى الانتهاكات في الذاكرة الجماعية للأفراد والأجيال القادمة من بعدهم، وتشجيع التضامن الاجتماعي مع الضحايا وعائلاتهم، بالإضافة إلى تهيئة المناخ المناسب للبدء بمصالحة شعبية بين فئات الشعب كافة.
​ولهذه الغاية، ستتنوع أشكال جبر الضرر في مرحلة العدالة الانتقالية في سوريا لتشمل التعويض المباشر لضحايا الاعتداءات وعائلاتهم من بعدهم، بالإضافة إلى جبر الضرر الموجه نحو المستقبل، والذي يجب أن يشمل إعادة تأهيل الضحايا وتأمين حياة أفضل لهم، وتقديم المساعدات الصحية والنفسية لكي يتمكنوا من تجاوز الآثار المترتبة على الانتهاكات الجسيمة لحقوقهم وحرياتهم الأساسية.
​كما يشمل التعويض في مرحلة جبر الضرر، الدعم المعنوي الذي تتعدد صوره لتشمل تقديم الاعتراف الرسمي بما جرى من قمع وانتهاكات من قبل النظام السوري السابق، وتقديم الاعتذارات الرسمية للضحايا وذويهم، والإعلان عن يوم وطني لإحياء ذكرى التحرر من الظلم والطغيان، وإطلاق أسماء الشهداء على الشوارع والميادين العامة في سوريا، بالإضافة إلى بناء النصب التذكارية والمتاحف العامة التي تخلد ذكرى الضحايا من الشعب السوري.
​ومن الأشكال الأخرى لجبر الضرر خلال فترة العدالة الانتقالية العمل على إعادة الحقوق القانونية إلى الضحايا وتثبيت ملكيتهم على أراضيهم ومنازلهم التي جرى سلبها منهم بالقوة، والتسهيل على السوريين الذين تم تهجيرهم عن مدنهم وقراهم للعودة إليها، والعمل على إصدار عفو عام عن المطلوبين بأحكام قضائية صدرت بشكل تعسفي دون محاكمة، وعن عناصر النظام السابق من قادة الجيش والأجهزة الأمنية شريطة ألا يخل هذا الإجراء بفكرة العدالة الجنائية التي تشمل تحديد المسؤولين الرئيسيين عن جرائم الانتهاكات ومعاقبتهم.
​وتجدر الإشارة إلى أن جبر الضرر في مرحلة العدالة الانتقالية في سوريا يجب أن يختلف تبعا للضحية ونوعها الاجتماعي. فالانتهاكات التي وقعت على الفئات المستضعفة من شيوخ وأطفال ونساء لها تأثيرات مختلفة عنها بالنسبة للرجال، وهو الأمر الذي يجب التركيز عليه عند تحديد أشكال جبر الضرر المادي والمعنوي. كما يجب الإسراع في تنفيذ مرحلة جبر الضرر وتقديم المساعدات المادية والعينية للضحايا خلال فترة العدالة الانتقالية في سوريا، وعدم ربطها بالملاحقة القضائية لكبار المسؤولين في النظام السابق ومعاقبتهم.
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
laith@lawyer.com

مدار الساعة ـ نشر في 2024/12/22 الساعة 01:01