في مفهوم الإرهاب

د. صلاح جرار
مدار الساعة ـ نشر في 2024/12/18 الساعة 07:39

ما زال العبث بالمسميّات والمصطلحات في كلّ ما يجري حولنا من أحداث مستمراً على أشدّه وبوسائل عديدة ومتجدّدة بهدف تزوير الوقائع وقلب الحقائق، ويقود هذا العبث من يملك المال والإعلام والقوّة العسكريّة، وضحيّةُ هذا العبث هم الشعوب الفقيرة والضعيفة والمضطهدة والمحتلّة والممزّقة، مع أنّ الفقر هنا لا يُقاس بحجم الثروات والموارد بل بمستوى إدارتها وعدالة توزيعها.

ومن أكثر المسميّات أو المصطلحات التي يتعرّض مفهومها للعبث وفق أهواء العابثين ورغباتهم ومطامعهم ومصالحهم مصطلح الإرهاب، فلا تكاد نشرة أخبار واحدة في جميع المحطات الفضائية التلفزيونية والإذاعية ووسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة تخلو من إيراد كلمة الإرهاب أو الإرهابيّ أو مشتقاتها، حتى لو كانت النشرة مقتصرة على أخبار الرياضة أو الاقتصاد أو الثقافة، فكأنّ كلمة الإرهاب أو الإرهابي أصبحت لازمة من اللوازم التي لا تستغني عنها نشرة أخبار واحدة.
وقد بدأت صرعة اتهام الدول والجماعات بالإرهاب من خلال الإعلام الأميركي، وأصبح هذا الإعلام هو المنبع لتصدير هذه التهمة في كلّ الاتجاهات، وأصبح دور الإعلام العالمي بما فيه العربي هو أن يتلقّف هذه التهم ويردّدها ويروّجها كأنّها آياتٌ منزلة من السماء، بل أصبح العقل العربي يتقبل هذه التهم وينطلق منها في أحكامه ومواقفه دون أيّ تثبّت أو تحقّق أو تقييم، وكأن ما يأتي ممّن يملك المال والإعلام والقوّة العسكرية غير قابل للنقاش أو الاختبار.
وقد أدّت جرأة الولايات المتحدة الأميركية ووسائل إعلامها على إطلاق صفة الإرهاب على كلّ من لديه شبهة معاداتها أو معاداة حلفائها، أدّت إلى تجرؤ بقيّة الدول على استخدام هذه التهمة لمواجهة كلّ من يعاديها من الدول أو يعارضها من أبناء شعبها ومجتمعها، حتى أصبح لكلّ دولةٍ عدوٌّ إرهابيّ في الداخل أو في الخارج. وأخذت هذه الدول تستخدم هذه التهمة لتحقيق عدّة أهداف، أوّلها تسويغ الاعتداء على دولة مجاورة، وثانيها تسويغ ممارسة الاضطهاد والقمع ضدّ فئة أو مكوّن من مكوّنات المجتمع، وثالثهما ضمان الدعم الأميركي والغربي لها في?إجراءاتها وممارساتها العدوانية انطلاقاً من كون من يوصف بالإرهاب عدوّاً مشتركاً بين الدولة والولايات المتحدة والدول الغربية.
ولمــّا أصبح أقصر السبل للتحريض ضدّ بلدٍ أو مجموعة أو طائفة أن تتهمها بالإرهاب، فقد أصبحت معظم الدول والجماعات والطوائف، إن لم تكن كلّها، متهمة بشكل أو بآخر بالإرهاب أو دعم الإرهاب من هذه الجهة أو تلك ولا يكاد يسلم بلدٌ أو مجموعة أو فصيلٌ أو طائفة من هذه التهمة، ويستطيع أيّ مراقب من خارج المشهد، بسبب تبادل تهمة الإرهاب بين الدول والجماعات، أن يحكم على العرب والمسلمين كافة بأنّهم أمّةٌ إرهابيّة.
إنّنا ونحن يتّهم بعضُنا بعضاً بالإرهاب نسوّغ للولايات المتحدة ودول أوروبا والكيان الصهيوني في فلسطين كلّ ما يرتكبونه من جرائم ضدّ بلداننا وشعوبنا، لأنّ هذه الدول تمارس ما تمارسه ضدّنا بذريعة محاربة الإرهاب، ونحن باتهام بعضنا بالإرهاب نوفّر لها الذريعة.
وعندما تختلف الدول أو الجماعات في سياساتها وأيديولوجياتها وتحالفاتها اختلافاً كبيراً وتتفق في وصف بعضها بالإرهاب، فإن ذلك يعني أنّ لكلّ منها مفهوماً خاصّاً للإرهاب، وبالتالي ما يكون لدى جهةٍ ما من صفات تصنّفها جهة إرهابية يكون لدى جهة أخرى ما ترى فيه صفاتٍ وطنية أو إنسانية إيجابيّة، وبالتالي لا تتفق الأطراف كلّها على مواصفاتٍ محدّدة للإرهاب أو للجهة المتهمة بالإرهاب. ويقف وراء هذه الفوضى في تحديد مواصفات الإرهاب أو الإرهابيّ رغبة الولايات المتحدة الأميركية في التملّص من أيّ صفة قد تنطبق عليها وعلى دولة الا?تلال الصهيوني.
إنّ الحاجة ماسّة لوضع تعريف عالمي له مواصفات ومعايير محدّدة واضحة لمفهوم الإرهاب، كما أنّ الحاجة ماسّة للتوافق على حدود دقيقة وواضحة بين الإرهاب ومقاومة الاحتلال، وثمة حاجةٌ ماسّة أيضاً لوضع فوارق واضحة بين الإرهاب والثورة على الظالم داخل الدول التي تحكمها أنظمة استبدادية، والمطلوب أيضاً وضع معايير ومواصفات واضحة ومحدّدة لما يعرف بإرهاب الدولة أو الدول الإرهابيّة. ولئن كانت القوانين الدولية تتعرض في هذه الأيام إلى عرقلة تطبيقها بسبب الهيمنة الأميركية فإنّ وضع هذه القوانين وإقرارها عالمياً سوف يسهم في حفظ ح?وق الدول والجماعات والأفراد، وضبط كثير من الفوضى في استخدام المصطلحات والمفاهيم التي تتصل بالأمن الدولي وأمن المجتمعات والجماعات والأفراد، ووضع حدّ للعبث في أمن الشعوب تحت ذرائع مصطنعة وكاذبة.
وأخيراً فإنّه يمكن بناء مفهوم دقيق للإرهاب من خلال النموذجين الماثلين أمام أعيننا وهما النموذج الأميركي والنموذج الإسرائيلي، وهما نموذجان يقومان على ارتكاب أبشع أنواع القتل ضدّ الأطفال والنساء وكبار السنّ من المدنيين بأشدّ أنواع الأسلحة فتكاً وتدميراً إلى جانب ممارسات أخرى كالحصار والتجويع ومنع كلّ مقومات العيش عن المدنيين العزل الذين لا يملكون حوْلاً ولا قوّة لمواجهة قاتليهم.
Salahjarrar@hotmail.com

مدار الساعة ـ نشر في 2024/12/18 الساعة 07:39