طوبرجي من غزة

عبدالهادي راجي المجالي
مدار الساعة ـ نشر في 2024/11/21 الساعة 04:05

.. حين يعرض التلفاز صور غزة، تكتشف الحجم الهائل للدمار.. لم يتركوا منزلا ولا حديقة ولا مسجدا.. لم يتركوا شارعا أو زاوية إلا وضربوها بالقذائف.. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هدموا غزة.. هل استطاعوا هدم فلسطين في داخل (الغزاوي)؟

كان المقصود من هذه الحرب هدم حلم الدولة، وهدم حلم الحرية، وهدم الرفض الساكن في القلب.. فهل هدموا كل ذلك أم أعادوا البناء؟.. حتما أعادوا البناء.
حين تنتهي الحرب أريد أن أذهب كي أعمل (طوبرجيا) في غزة، الناس هناك ستبحث عن جثث الشهداء التي دفنت في ساحات المستشفيات، وستبحث عن العوائل التي فقدت.. عن أماكن دفن الأحباء، ستكون مشغولة.. وأنا حتما سأكون عاملا متطوعا في ورشة، أرسلت بدعم من بعض الشرفاء العرب وبتمويل منهم لإعادة إعمار ما ردم..
ستنادي علي (أم تهاني)، وتطلب مني أن أقوم بنشر (السجاد) القديم على سور مهترئ، كي يتحلل من رطوبته... لقد صمد السجاد في الحرب ويجب إعادة استخدامه، وسيهرول الأطفال حولي وأنا أقوم بحمل الطوب.. كي أصعد به السطح المهدم.. هل سأحمل (مسطرين)؟..بالطبع كل (العدة) ستكون معي.
سأعمل دون أجر متطوعا فقط، سيكون لدي (كريك).. كي أزيل به شظايا الزجاج، وبقايا الألمنيوم والحديد، سأفتح معبرا للأطفال كي يمروا.. وسأتاكد أن الطريق قد مهد جيدا كي لا تتضرر أقدامهم من شظايا الزجاج... البحر هناك سيعطيني تصريحا بالعمل، والنخل سيراقب مكان عملي.. وسأترك للجدران أن تحسب الساعات، وسأترك أيضا للنوافذ المهدمة فرصة مراقبتي..
يقولون عن المغتربين: فلان يعمل مهندسا في أميركا، وفلان يعمل طبيبا في لوس أنجلوس وتفتخر (أم محمود) بأن ابنها من أهم مدراء البنوك في أستراليا.. أنا لا يعنيني كل ذلك فأعلى درجات الشرف أن أسجل في خانة العمر بأني عملت (طوبرجي) في غزة.. سأقبل أن أعيش على السردين، وعلى الخبز والماء ولا ضير إن أعطاني البعض قليلا من (الشطة)..
سأقوم بتأسيس (جمعية طوبرجية غزة)، وليتطوع معي من يرغب.. لن نذهب هناك فقط لأجل البناء، بل سننظف بقايا القذائف، سننظف البيوت التي بقيت واقفة.. وفي المساء، سنصنع من (خشب الطوبار) بعض (المراجيح) للأطفال.. وسنصنع من البراميل التالفة في منتصف الساحات كي يلعبوا عليها.. وسنقوم في الليل بإشعال النار، كي يلتف حولها سكان الحي، ويسردون لنا قصص الحرب والنزوح..
ربما مع الأيام سأصبح (معلم)، وأتنقل في الورشات.. وربما سيكلفونني بترميم مقبرة دفن فيها الكثير من الشهداء، وللأسف لم تعرف هويات جزء منهم، سأهمس في تراب قبورهم وأنا أرمم في السور: يكفيهم أن الله سيعرفهم بالوجه والكف والسبابة التي ارتفعت.. يكفيهم أن الله سيرفعهم إلى عليين، سأخبرهم بأننا نحن المجهولون.. فالشهيد لا يعرف لأنه يمتلك أعلى وصف وأشرف تسمية وأنبل مستقر..
نعم أريد أن أكون (طوبرجي) في غزة.. إياكم أن تعتقدوا أني سأذهب إلى هناك لبناء المنازل والأسوار المهدمة... أنا سأذهب إلى هناك كي تبني لي غزة ما تحطم في قلبي من ضمير، وما انهدم من عروبة، ولكي تنظف أسقف روحي من عفن الزمن والتخاذل.. غزة هي من تبني فيّ الحياة.
Abdelhadi18@yahoo.com

مدار الساعة ـ نشر في 2024/11/21 الساعة 04:05