بطَّاح يكتب: الحرب الإسرائيلية على غزة: علامة فارقة في تاريخ الحروب

د. أحمد بطّاح
مدار الساعة ـ نشر في 2024/10/24 الساعة 15:44

لقد شهد العالم حروباً كثيرة طوال تاريخه، فالحروب للأسف جزء من الحياة الإنسانية ولكن بعض الحروب تستوقف المحلّل وتجعله يُلاحظ بعض الظواهر المُلفِتة التي تميزها عن غيرها، ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا بأنّ الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة تندرج ضمن هذه الحروب المُلفتة، الأمر الذي يجعلها بحق علامة فارقة في تاريخ الحروب ولعلّ من أهمها:

أولاً: الصمود الأسطوري لشعب قوامه (2,300,000) نسمة يعيش في مساحة لا تزيد عن (365) كيلو متراً (الأكثر كثافةً سكانية في العالم) لمدة تزيد عن سنة في وجه جيش حديث مدجج بالسلاح ويحظى بدعم غربي (وبالذات أمريكي) غير مسبوق: عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، ولعلّ ما شهده هذا الشعب من تهجير (لأكثر من مرة جيتاً وذهاباً داخل القطاع)، وتدمير (أكثر من 70% من المساكن) وقتل (أكثر من 42,000) وجرح (أكثر من 95,000) فضلاً عن التجويع والتضييق بكافة أشكاله وصوره هو معجزة حقيقية. صحيح أن شعوباً كثيرة صمدت في وجه الغزاة وفي أوطان مختلفة، ولكن صمود الشعب الفلسطيني على أرضه واحتماله لكل الأهوال التي وصفنا هو صمود تاريخي ويستحق التوثيق.
ثانياً: فشل الجيش الإسرائيلي المُزود بكل أنواع الأسلحة الحديثة والذي يتسلم في كل يوم آلاف أطنان الذخائر (وصله حتى الآن أكثر من 50,000 طن من الأسلحة الأمريكية) في هزيمة المقاومة الفلسطينية التي تتوفر على بعض الأسلحة المتواضعة والتي تعتمد على نفسها في التزود والتصنيع، الأمر الذي يستحق أن يُدرّس في كليات الحرب إذْ كيف تستطيع مجموعات مقاومة تفتقر إلى الإمداد المستمر وتعيش وسط هجمات مستمرة ليلاً ونهاراً براً وبحراً وجواً، أن تصمد بل وأن تُلحق خسائر مهمة في صفوف عدوها. إنّ هذا يؤكد نظرية ما يسمى "بالحرب غير المتناظرة" ومُفادها أن مجرد صمود الجماعات المسلحة في وجه الجيوش النظامية المجهزة والمدربة هو نصر بحد ذاته، ولعلّ التفسير الوحيد لهذه الظاهرة هو أنّ المقاومة الفلسطينية هي "فكرة" تستند إلى ضرورة التحرر من الاحتلال، وتحقيق الاستقلال، والعيش بكرامة.
ثالثاً: خروج إسرائيل عن كل أخلاقيات الحروب وما تواضع عليه العالم من اتفاقيات (مثل اتفاقيات جنيف الرابعة وغيرها) ومبادئ تحكم السلوك العسكري أثناء الحروب، فقد دمرت المستشفيات، والجامعات، والمدارس، والمعابد، بل وحتى الطرق والأراضي الزراعية، الأمر الذي برّر اتهامها أمام محكمة العدل الدولية بأم الجرائم وهي جريمة "الإبادة الجماعية". إن الحروب تشهد دائماً تجاوزات وربما بعض الفظائع، ولكن ما يجري على أرض قطاع غزة هو تجاوزات وفظائع "مُمنهجة" ترمي إلى جعل القطاع أرضاً غير قابلة للحياة! إن ما تقوم به إسرائيل الآن في قطاع غزة ليس حرباً بالمعنى التقليدي للكلمة، بل هو في الواقع إبادة لكل أشكال الحياة حيث اشتملت على التهجير، والتدمير، والقتل، والتجويع وكل ما يمكن أن يخطر على البال من أشكال التطهير العرقي والإبادة.
رابعاً: "الشلل" العالمي إزاء ما يجري في القطاع، فلا الأمم المتحدة قادرة على وقف المجازر والمقارفات البشعة بحق السكان، ولا الدول غير الراضية عما يجري قادرة على إيقاف ما يحدث من مآسٍ، ولا حتى الرأي العام العالمي الذي يعبر عن نفسه بالتظاهرات والاحتجاجات قادر على أحداث تغيير، وغني عن القول إن هذا "الشلل" الدولي الموصوف يحدث بسبب هيمنة الغرب وبالذات الولايات المتحدة على المشهد الدولي، فهي التي تدافع عن إسرائيل في هيئات الأمم المتحدة، وهي التي تحميها وتضمن لها دعم كثير من الدول بحكم تفرّد الولايات المتحدة كقوة كونية كبرى لها مصالحها الممتدة على مستوى العالم.
خامساً: السقوط الأخلاقي المريع الذي تتسبب به الحرب الإسرائيلية الهمجية على القطاع المنكوب، إذْ مما لا شك فيه أن كثيرين من انقياء الضمير، وأحرار العالم بدأوا يتساءلون: هل نحن نعيش في عالم متحضر حقا؟ لقد أصابت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة الأخلاق العالمية التي توافق عليها بنو البشر في مَقْتل، فكيف يمكن للعالم أن يتقبل قتل أكثر من 15,000 طفل من أطفال غزة؟ وكيف يمكن للعالم أن يرى جماهير الناس تعيش في الخيام الرثة بل وتحترق أحياناً فيها بسبب الهجمات الإسرائيلية؟ وكيف يمكن للعالم أن يسكت على التهجير المستمر لمجاميع السكان ولعدة مرات في اليوم الواحد أحياناً؟ وكيف يمكن للعالم أن يستوعب تزاحم جماهير الناس على كسرة خبز أو وعاء طعام بسبب سياسة التجويع الإسرائيلية التي ترمي إلى تركيع السكان وإرغامهم على الرضوخ والاستسلام؟ إنّ ما يجري في قطاع غزة وصمة عار على جبين الإنسانية بدون أدنى شك، ولسوف تستذكر الإنسانية يوماً ما وتقول إن ما جرى في قطاع غزه مس "الخلق الإنساني" ووضع تساؤلات حقيقية حول "تحضّر" الإنسانية وخروجها من دائرة "التوحش" "والبدائية".

مدار الساعة ـ نشر في 2024/10/24 الساعة 15:44