الشناق تكتب: عناق الصمود
مدار الساعة ـ نشر في 2024/10/17 الساعة 11:07
لم يتمالك نفسه أمام الشجرة، التي زرعها عندما بلغ السادسة من العمر في العام 1944، اجتمعت أمامه ذكرياته الوافرة كلها في بيسان، قبل أن يشهر جندي إسرائيلي بندقيته في وجهه ويرّحله مع عائلته عن منزله عنوة بعد أن تعرضوا للضرب والنهب، استعاد تلك اللحظات وكأنها بالأمس أمام الشجرة، التي تحمل ذكرياته وعبق بلاده، صمت أمامها طويلا كأنه يستمع إليها، فهي شاهدة على جرح الاحتلال والظلم والاستبداد، يهمس لها كحبيب نال الوصل، بعد طول التمني.
جلس في ظلها ممسكاً بحفنة من التراب، الذي ترعرع عليه ولعب به، قبّله وبدأ يشمّ أريج ماضيه وسيول حرقة وأسى تنهمر من عينيه.. ثمانون عاماً وهو مهجر ولم تحطّ رحاله إلا في أرض أجداده، يراقبه حفيده نضال بصمت وهو يحتضن بقايا شجرة معمرة يمسح عليها بيده تارة، ويقبلها تارة أخرى، تقدم نحوه قائلاً: جدي انتهيت من نصب الخيمة في المكان، الذي أشرت إليه.
لم يأبه لما قاله حفيده واستمر في وصاله، فهذه هي المرة الأولى، التي يجلس فيها على أرض بيسان، بعد أن شتته النكبة في بقاع الأرض، فهو يلتمس في جذوع الشجرة حرارة الحنين إلى أرض لم تكن غائبة عن ذهنه ووجدانه طوال بعده عنها، كانت دائمة الحضور في كلامه وصمته.
توجه نضال إلى السيارة تاركاً جده غارقاً في مشاعره المختلطة بين الحزن والألم والفرح، التي ترتسم على وجهه بين لحظة وأخرى، ليُحضر بعض الأغراض، التي تزود بها من أجل البقاء لمدة في بيسان مع جده.
أنهى الحفيد نضال إحضار ما يريد ووضعه في الخيمة، عاد وأحضر كرسيين مطويين ونصبهما إلى جانب جده وساعد جده على النهوض والجلوس على الكرسي، وقال له: يا جدي لا ترهق نفسك بالتفكير.. فلسطين تحررت وأنت الآن في بيسان، أترك الباقي على المولى.
نضال... أنت لا تدري ما يجول بخاطري - قال الجد بتهكم – وأمسك عكازه وبدأ يحفر بها الأرض وهو يفكر في حال بيسان ويسترجع كيف خرج من بيسان حاملاً أخاه الصغير، الذي لم يكف عن البكاء إلا بالموت، تذكر كيف كان تائها بين الجموع كلها يبحث عن أمه بين شتات الأهالي، بعد الخروج من بيسان، لترضع أخاه، ذكر جارهم المسن، الذي قتل في منزله لمقاومته جندياً إسرائيلياً حاول الاعتداء على ابنته في غرفتها، تدافعت الذكريات أمامه والأسى يعلو جبهته، مأساة الخروج من بيسان خلقت لديه أمل العودة، الذي أصبح واقعا.
أعدّ الحفيد القهوة على الطباخ الغازي الصغير المتنقل، توجه إلى جده حاملاً معه القهوة، جلس على مقربة منه وسكب القهوة في كأسين من الكرتون المقوى، قدم كأساً لجده، وقال له: جدي، بيسان لم تكن بالنسبة إليك ذكريات وحنين فحسب، إنها العشق، الذي لم يغب عن ذهنك وهلة، طالما تفاخرت بك يا جدي أمام أقراني ونقلت إليهم ما تقوله عنها.. زرعت فينا حب فلسطين وبيسان.. علمتنا كيف يكون التحرر من سياسات انتهجتها إسرائيل وحلفاؤها هدفت إلى محو فلسطين من ذاكرتنا نحن الشباب، جدي لا تيأس ففي سنوات قليلة تكاتفنا بها حررنا فلسطين.
أخذ الجدّ من قهوته رشفة، وقال: لم أيأس يوما لكن الخوف من القادم يؤرقني، عندما توجهت نيتي إلى التبرع بكل ما أملك من أجل اعمار بيسان من جديد، رفع عليّ بعض أولادي دعوى الحجر واتهموني بالخرف، هل القضاء سينصفني، فأنا، الآن، لا استطيع التصرف بأموالي، سوى، التي كنت قد أودعتها في الخزنة.
حمقى لم يجوبوا بقاع الأرض ولم يذوقوا مرارة اللجوء والاغتراب والتنقل بين الدول ليؤسسوا ثروتهم كما فعلت، كلما عملت في مكان كنت أهلك نفسي من أجل النهوض بوضعي الاقتصادي والذي بنهوضه ستنهض فلسطين، علمتهم حب الوطن والتضحية لأجله لكنهم أحبوا المال والراحة، حرصت على تعليمهم من أجل أن تكون لفلسطين بنية تحتية متعلمة ومثقفة عند العودة.
سكت الجد لوهلة وأطرق كأنه يحاول استرجاع ذكرى ما، وأضاف: مرّ، الآن، ثمانون عاما على الاحتلال، ولم يبق على هذه الأرض من ذكريات الأجداد سوى بقايا هذه الشجرة، هدموا كل ما بنينا.. نسفوا تاريخنا وذكرياتنا.. زيّفوا كل شيء ظنا منهم أنهم خالدون في هذه الأرض المباركة، تحررت فلسطين وجاءت الحرب على معظم أجزائها، ما استعمله الاحتلال من أسلحة فتاكة قلبت محاور الأرض وباتت بيسان تعيش كارثة مؤلمة.
يا ولدي لن أيأس.. ستنمو الحشائش والأشجار، وتمتلئ الأرض بالحياة من جديد، برغم أنه لا أثر لقنوات المياه، التي كانت تجري بين البيوت والبيارات والبساتين، أنا موقن أن كروم الموز والنخيل والرمان والتين وقصب السكر ستعود وافرة في أرض بيسان بجهودكم، سيعود الأحفاد بالتأكيد ليعمروا أرض أجدادهم، برغم أن المعالم اندثرت وشوهت، دثروا كل ما يتعلق بأهل فلسطين، صحيح أنه لا يعرف بعض الأحفاد أين أرض أجدادهم ليعمروها وينهضوا بها، وتلك العائلات اليهودية المستوطنة، التي لم تغادر فلسطين وما أكثرها، ستعترف أن هذه الأرض ليست ملكهم وأن هذه البيوت ليست لهم.
جدي – قال الحفيد مقاطعاً: علّمتنا من صغرنا أن العودة حق وأننا عائدون بقوة، وها قد عدنا، فهذا الحق يحتاج إلى مساع متكاتفة ومنظمة، حتى لو لم نكن في ركب من حرر فلسطين فقد كان نضالنا جماهيرياً من داخل فلسطين وخارجها، فنحن الشباب سننهض بها من جديد، أخبرتك عن المبادرات، التي ينهض بها أصدقائي المقيمين خارج فلسطين ومن أنحاء العالم كلها، نحن أبناء بيسان جمعتنا التكنولوجيا وخططنا من أجل هذا اليوم التاريخي لإعادة اعمارها بجمع التبرعات وعودة الشباب.. قريبا سيصلون.
نهض الجد من مكانه مستندا على يد حفيده وقال مبتسماً: آمل ذلك، فلن يخيب ظني بشباب فلسطين، فالشرذمة القليلة، التي كان منها بعض أقاربك وأعمامك لن يؤثروا على هممكم، فقد جاءوا إليها كسياح وليسوا كأصحاب أرض، يلتقطون الصور ويتحسرون على ماضٍ مليء بالأسى تولى، عادوا إلى مواطن أعمالهم غير آبهين بوطنهم، الذي يجب أن يتركوا كل شيء بأيديهم ويعودوا لبنائه.
وضع الحفيد يده على كتف جدّه وقال: يا جدي نحن في العام 2028 وتكنولوجيا البناء متقدمة، ستعود بيسان كما أخبرتني عنها يا جدي، ستعود بياراتها وشوارعها وبيوتها سيعود إليها أهلها.. لا تيأس من تصرف الغالبية بعدم رغبتهم بالبقاء أكثر من أيام، وقولهم أن لا شيء يجذبهم للعودة إلى ديارهم، سيعودون ويملؤونها حباً تزهو به الأرض وتعمر.
ابتسم الجد ورفع نظره إلى السماء وقال: لن يعود من وضع حاجزاً بينه وبين أرضه - أضاف مخاطباً حفيده - بنوا حواجز العمل والأولاد والبيئة دون العودة، وعندما تدعوهم للعودة يجبهونك بأسئلة: أين سنقيم؟ أراضينا وعقاراتنا ضاعت حتى لهجتنا تغيرت، لا نستطيع التكيف.. ويبهرونك بقولهم: تحررت فلسطين من الصهاينة وسيتقاتل من حررها على السلطة ونظام الحكم ولا قوة لنا بالخوض في هذه الأمور... يا ولدي من يريد أن يبني وطناً لا يأبه للسلطة.. تعالوا وتكاتفوا بأموالكم وأنفسكم لبناء فلسطين العظيمة من جديد، ولكن الأمل لا ينقطع ها أنت أخبرتني عن الشباب المتعاضدين من أجل أرض أجدادهم.
سار الجد متجهاً إلى أمام.. توقف برهة واتكأ على عكازه قائلاً: لا أدري كم من الوقت سنحتاج إلى إعادة بيسان، وهل سأراها تنهض، كما كانت، قبل أن أموت... يا حسرتي عليكِ يا أمي تمنيتِ أن تدفني في بيسان ولكن أمنيتك لم تتحقق، دفنتِ في غور الأردن لتبقي قريبة من بلدك الحبيب، سأحقق أنا الأماني.. التفت إلى حفيده قائلاً: أجمل ما في الأمر أن تراب بيسان سيحتضنني عند الموت.
أجابه حفيده: أطال الله في عمرك يا جدي، سيكون كل شيء كما تريد، سلطة التحرير وضعت في كل مدينة مكاناً لتجمع أهلها من أجل أمور الجنسية الفلسطينية وتحديد احتياجاتهم وتوزيع الأراضي على أهالي المنطقة، ففي بيسان وضعت في مركز البلدة وسط ساحة السرايا التركية كرافانات للإقامة بها لحين إكمال اللجنة جمع العائلات وتحديد أملاك الأراضي، قبل النكبة، وإعادتها إلى عائلات بيسان، سجلت قدومنا يا جدي وأخذت لنا محل إقامة فيها.
قال الجد باستهجان، وهو يعود أدراجه ليجلس على الكرسي: جيد.. لكن أنا سأقيم في الخيمة، التي نصبتها فوق أطلال منزلنا.
أخرج الجد مفتاحاً قديماً من جيبه شمّه وقبله، ثم رفعه مخاطباً حفيده: منذ هُجّرْنا في 12 أيار 1948 لم يفارقني هذا المفتاح برهة من الزمن، كنت آخر من أقفل باب بيتنا الكبير، هدم البيت ولم يبق إلا المفتاح، يا ولدي أمضيت سني العمر مرتحلاً تائهاً أجوب الأرض مغترباً، أبحث عن وطن يؤويني، يحويني، يلملم شتات حياتي، أنشأت وطناً في أسرتي، لكم قصصت عليك وعلى والدك وأعمامك من قبلك عن فلسطين ليرسخ حبها وأمل العودة في الأذهان، كم مرة سألتكم يا أحفادي ماذا تنون أن تفعلوا لفلسطين عند العودة، أختك وعمتك تحملان اسم بيسان.. ذلك كله لتخلد الذكرى ولا ننسى فلسطين، يا ولدي مهما قدمت إليّ الأوطان، التي حللت بها من سبل الحياة فهي لا تفي.. لا بديل عن الوطن، هُجّرْنا وكابدنا ألاماٍ وجراحاٍ لا يعلمها إلا الله، بنينا أوطاناً وأنشأنا حضارة في كل مكان حللنا به لنكتسب الخبرة في إعمار فلسطين من جديد.. كان ذلك حلماً جميلاً عشناه نحن من هجرنا من فلسطين لنهدهد اشتياقنا ونخفف آلامنا، والآن، أصبح واقعا يعيشه الأحفاد، فأغلب أقراني لم يعودوا في هذه الحياة.
تنفس الصعداء وأضاف بصوت مرتفع مفعم بالألم: بيسان لا بديل عنكِ.. ثم نظر حوله وقال مومئاً باصبعه: أترى تلك الحجارة السوداء القديمة؟ إنها بقايا جامع بيسان الكبير جامع الفاروق، الذي حرق الصهاينة كل من كان فيه، دنسوه عليهم اللعنة، وذاك بيت شيخ عرب الصقور هدموه، أول ما دخلوا بيسان، وهدموا عدداً كبيراً من البيوت.. أقف، الآن، يا ولدي على أطلال بيتنا الكبير، الذي كان يضم عائلتنا الكبيرة، لم أفقد الأمل بالعودة، فكلما سمعت فيروز تغني لبيسان "كانت لنا من زمان وضيعة ظليلة ينام في أفيائها نيسان... أذكر يا بيسان يا ملعب الطفولة أفياءك الجميلة.. خذوني إلى بيسان"، أشعر أن صوتها بساط طائر يطوف بي في رياض بيسان، فقلبي المغرم بحب فلسطين لم يعرف اليأس، كم رددت عليكم أننا سنعود لنعمر فلسطين، وها قد عدنا.
سكت قليلاً وأضاف: أطال الله بعمري واستجاب دعائي "ربي لا تمتني إلا على أرض بيسان"، في التسعين من عمري وأشعر أني طفل يريد أن يسابق الريح على أرض بيسان.
رنّ هاتف نضال، أجاب وكانت والدته تحدثه بعتاب، ردّ عليها قائلاً: أمي لا تخافي من شيء، سأطمئنكِ أولا بأول.. جدي يحتاج إلى رعايتي.
في هذه الأثناء توقفت قربهم شاحنة صغيرة نزلت منها مجموعة من اليافعين تتقدمهم امرأة مسنة ملأ الغيظ وجهها وتتكلم باللغة العبرية بعصبية توجهت المجموعة إلى حيث يجلس الجد ونضال، اقتربت من الجد وقالت بلغة عربية مكسّرة: ماذا تريدون منا.. الأرض لنا.
أنهى نضال اتصاله، على عجالة، ووجه إليها الكلام بصوت مرتفع وحاد، وهو يومئ إليها بسبابته: اذهبي يا امرأة، لا أريد أن أدخل معك في جدال، احتراما لعمرك ولأننا في مرحلة جديدة من مراحل فلسطين أتينا لننهض ببلادنا ونعمرها، بعد الخراب ومحو الهوية الذي أحدثتموه على أرضنا، ابقوا مسالمين وإلا قتلناكم، انتم من اغتصبتم الأرض منا وها قد عاد الحق إلى أصحابه، أنتم من يجب أن يرحل لا نحن، سلبتم منا كل شيء حتى حق العودة تقاسمونا فيه، أخطأت سلطات التحرير بإبقائكم هنا.
قاطعه الجد قائلاً: اتركها يا ولدي قد يكون لها عزيز قتلته الحرب وتريد أن تنتقم منا بالشجار معنا - التفت الجد نحوها قائلاً: نحن لا نريد إخراجك ولا قتلك.. لكِ الخيار بالبقاء في بيسان أو المغادرة أما هذه الأرض فلن تكون لغير أهل فلسطين.
أشارت بعكازها إلى الخيمة ونادت على مرافقيها، الذين توجهوا إلى الخيمة بغية هدمها، ركض نضال ليمنعهم، انهالوا عليه بالضرب، اشتبك معهم نضال في عراك بالأيدي، تقدم الجد نحوهم وبدأ يضرب بعكازه من تطوله يده.
أخرجت المرأة العجوز مسدساً وأطلقت منه رصاصة أصابت الجد في قدمه، ركض نحوها اليافعون والخوف يملأ قلوبهم، توجهت إلى الشاحنة وركبوا معها، أسرعت في القيادة وولت هاربة.
على اثر إطلاق الرصاص اقترب بعض الأشخاص، الذين كانوا في المنطقة، ليروا ما حصل، تراكضوا ليصلوا إلى المكان يتقدمهم رجل أربعيني وولده، كان نضال يلف قدم جده بقميصه الممزق ليحمله إلى السيارة لنقله إلى المستشفى، اقتربا منه.. ساعداه على نقله إلى السيارة.. قال الرجل الأربعيني لولده عد إلى أعمامك وسأبقى مع هذا الرجل، سأتصل بكم، ثم التفت إلى نضال وقال له أنا سأقود السيارة، هيا اركب لنصل إلى الساحة الكبيرة حيث المستشفى الميداني.
وصلوا إلى المستشفى الميداني بأقل من عشر دقائق، اصطفت السيارة قرب مدخل خيمة المستشفى أوعز نضال إلى من كان في الإسعاف ليتقدموا بالحمالة.. أخرجوا الجد من السيارة خائر القوى لا يقدرعلى الكلام.. وضعوه على الحمالة وأدخلوه إلى خيمة الطوارئ من أجل الإسراع في علاجه وإيقاف النزيف الحاصل له.
قال نضال متوتراً وبصوت مرتفع للممرضة: أين الطبيب.. أسرعوا في علاج جدي.
أجابته الممرضة بهدوء: حالما نجهز جدك ونجري له اللازم من الإجراءات الطبية سيحضر الطبيب.. إنه في الخيمة المجاورة، اجلس على مقاعد الانتظار أرجوك.
اقترب الرجل الأربعيني من نضال وقال له: لا تخف فالرب يرعاه، تعال لنجلس هناك، سأصلي لأجل جدك.
توجه نضال والرجل إلى المقاعد.. جلسا.. قال نضال وهو يربت على كتف الرجل: شكراً لمساعدتك لنا، ووقوفك إلى جانبنا، أنا نضال.
الرجل: أدعى نديم، لا شكر على واجب فنحن أهل، وأمثال هذه المرأة يجب أن يقتلوا أو يتخذ بحقهم إجراء.
نضال: من الخطأ إبقاؤهم في فلسطين، هؤلاء يحملون الضغينة والكراهية والفساد، إبقاؤهم خطر على مستقبل فلسطين، يعتقدون أنهم أصحاب حق، سيؤثرون علينا وقد يعودون من جديد.
نديم: لا تقلق لن يعودوا، سلطة التحرير أمهلت من بقي منهم عاماً حتى يرتبوا أوضاعهم، وحتى تتمكن السلطة من وضع حل أو نظام يحكمهم مع مراقبتهم، قلة من بقي منهم فالغالبية عادت إلى أوربا، هزمت إسرائيل وسحقت بقوة إيمان العرب والفلسطينيين، الذين ملأوا بقاع الأرض ففلسطين عربية والعودة حق لكل لاجئ، فهذا التكاتف والتعاضد العربي، الذي استمدته سلطة التحرير ونظمت جيوشها على أساسه بسنوات وجيزة وبعمل منظم بعد القضاء على الخونة داخل فلسطين وخارجها، لم يكونوا بقوة إسرائيل وأسلحتها الحربية، لكنهم آمنوا بالحق والحق حررهم كما قال المسيح.
نضال: اللجان والهيئات كلها خارج فلسطين كانت تجمع الدعم المادي والمعنوي وتوصله بكل أمانة إلى المعنيين الأمناء. لم ننس الحق.
نديم: مازال أمامنا الكثير من الأمور لتنظيم فلسطين وتنظيفها من براثن اليهود، أخبرني أنت لم تكن مقيماً في فلسطين هذا واضح من لهجتك.
نضال: أتيت مع العائلة بعد تحرير فلسطين، عادوا جميعا، بعد يومين من الوصول، وبقيت مع جدي هنا، هل أنت من المقيمين في بيسان.
نديم: لا، الأصل من بيسان، بعد النكبة أقامت عائلتي في الناصرة، بعد طردهم من بيسان والاستيلاء على بيوتهم وأراضيهم، عدنا إلى أراضينا وحمايتها وإعادة بنائها.. هل ستبقى في بيسان أم تعود إلى محل إقامتك خارج فلسطين.
نضال: وعدت جدي أن أبقى معه لإعمار بيسان، وأنا أنتظر قدوم بعض الأصدقاء من أجل ذلك.
نديم: أرضكم تعرفون أين هي؟
نضال: بالطبع، جدي أخبرني عن كل شيء، قبل العودة، وعند العودة رسم لي المعالم كلها، برغم أنه يتألم كثيرا بسبب اللجوء وما يواجهه الآن مع أعمامي وأقاربي بسبب عودته إلى فلسطين ونيته في التبرع بأملاكه جميعاً لبناء بيسان.
نديم: يشفيه الرب، وما المشكلة في تصرفه، هل هم ممن يعودون لبيع أراضيهم ومغادرة فلسطين من جديد، لفت انتباهي هذا الأمر ونحن بهذا الصدد نؤسس جمعية للمحافظة على أراضي بيسان لحمايتها، ومن يرغب في بيع أرضه يجب أن يبيعها إلى أحد أقاربه أو أهالي بيسان، نحن نخاف أن يكون هناك مندوبون عن اليهود يشترون الأراضي من أهلنا، كما كانوا يفعلون سابقا.
خرجت الممرضة من الخيمة، توجه نضال ونديم نحوها مسرعين، قالت لهم مطمئنة: إنه بصحة جيدة، أخرجنا الرصاصة من قدمه، إن به حاجة إلى وحدات دم، أرجو منكم التبرع له، وعندما يتحسن سننقله إلى الخيمة المجاورة.
توجها إلى خيمة التبرع بالدم، وبعد الانتهاء من التبرع، دعا نديم نضالاً لشرب عصير البرتقال الطازج، الذي يعده بائع متجول على عربته أمام المستشفى.
أخذا العصير وعادا للجلوس مكانيهما، قال نضال: يجب أن لا نسكت عما اقترفته العجوز الشمطاء، لن نسمح لأمثالها بالتمادي في الاعتداء علينا.
أجابه نديم: لا تخف، ربما اعتقلت، الآن، وأنا قادم باتجاهكم كان أخي يخبر هاتفيا جيش السلطة.
نضال: الحمد لله، لعنة الله عليها لم تدع فرحة جدي تكتمل.
قال نديم متسائلاً: أين ستقيم وجدك؟ هل لكما أقارب أو أصدقاء، أم ستمكثون في كرافانات السلطة؟
نضال: من لحظة وصولنا من أسبوعين إلى فلسطين لم تحط رحالنا إلا في بيسان تجولنا في أنحاء فلسطين كلها وصولا إلى هنا، وعندما قررنا الإقامة في بيسان حيث أمرني جدي بنصب الخيمة، التي منحتها لنا السلطة على أطلال بيته المهدم، وبعد ما حصل معنا اليوم أفكر بالتوجه إلى الكرافانات، بالتأكيد سيعارض جدي هذا الأمر.
نديم: عيب يا رجل، ستكون بضيافتنا، جدك به حاجة إلى رعاية ونحن إخوة، في الكنيسة أقمنا نزلاً لكل من يحتاج إلى مأوى لحين اكتمال الإعمار، وإن لم ترغب بالإقامة في الكنيسة بيتي يتسع لكم في الناصرة، سأتصل بأخي يجهز مكان إقامة لكم.
نضال: بارك الله بك.. ما أجمل ما تقدمونه لفلسطين، وفقكم الله.
ابتسم نديم في وجهه وأمسك هاتفه للاتصال بأخوته، توجه نضال، لحظتها، للاطمئنان على جده، دخل الخيمة، التي نقل إليها جده، نظر إلى الأسرة الموجودة في الخيمة باحثا عن جده، سار نحوه إلى آخر الخيمة، جلس إلى جانبه وأمسك بيده قائلاً: جدي تماسك.. اجمع قواك.. أحتاج إلى دعمك وصمودك، في لحظة غيابك شعرت أني في غرفة مظلمة، لا أعرف ماذا أفعل من دون نور مشورتك.
شدّ الجد على يد حفيده وقال له بصوت متقطع بسبب تأثير المخدر: يا ولدي لا تيأس والله يسمعك... قلبي المغرم بحب فلسطين لم يعرف اليأس.. عدت إلى مكان ولادتي لأدفن فيه ، إني احتضر.. تتدافع أمامي أرواح كثيرة لتحملني إليها... كم أنا سعيد سيغمرني تراب بيسان.
مدار الساعة ـ نشر في 2024/10/17 الساعة 11:07