الناقد نضال القاسم: الأيام سجال بين الأنواع الأدبية والشعر الأردني جزء من بانوراما الثقافة العربية
مدار الساعة ـ نشر في 2024/09/27 الساعة 12:02
مدار الساعة - يجمع نضال القاسم في سيرته الإبداعية والثقافية بين الناقد والشاعر المبدع، فقد أصدر حتى الآن 6 دواوين شعرية هي أرض مشاكسة ومدينة الرماد، وكلام الليل والنهار، وتماثيل عرجاء، والكتابة على الماء والطين، وأحزان الفصول الأربعة.
فيما تناول القاسم -ناقدا- تجربة الفنان ورسام الكاريكاتير ناجي العلي والروائي الفلسطيني رشاد أبو شاور في دراسة بعنوان الكنعاني وأخرى عن الشاعر الفلسطيني علي فودة بعنوان شاعر الثورة والحياة.
وحظيت تجربة القاسم الشعرية بالعديد من الدراسات منها "الالتزام الوطني والقومي في الشعر – نضال القاسم نموذجا"، للدكتور عبد الفتاح النجار، وعالم نضال القاسم الشعري للناقد محمد صابر عبيد، والعديد من الدراسات الأخرى.
وفي كتابه الأخير، الصادر عن دار تدوين للنشر والتوزيع، يحتفي القاسم بتجربة 3 شعراء راحلين، أثروا المشهد الشعري الأردني هم: حبيب الزيودي وعاطف الفراية وإدوارد حداد، وجمع بينهم إضافة إلى إبداعهم وتأثيرهم في المشهد الشعري الأردني الحديث رحيلهم المبكر عن الحياة.
ويأتي كتاب القاسم كما يقول "استكمالا لجهود نقدية بدأها ناقدون ودارسون للشعر الأردني وعرفانا لصداقة امتدت لسنوات مع الأصدقاء الذين طواهم الموت سريعا كلمح البصر، بعدما رحلوا واحدا بعد آخر، وتناثروا كحبات السبحة وقد كانوا بالأمس ملء العين والسمع والبصر".
يمثل كتابك الجديد احتفاء وإضاءة على ثلاثة من رموز الشعر الأردني الحديث، ويثير سؤالا مركزيا حول مسيرته.. من موقعك كناقد إلى أي حد ترى أن النقد قدم صورة شاملة عن الشعر الأردني ورموزه؟
إن دور النقد قد ظل تابعا للشعر غالبا، لا قائدا له، وقد واكبت الحركة النقدية كافة التجارب الشعرية على اختلاف مستوياتها وتجلياتها، والنقد المطبوع الذي يعالج قضايا الشعر الأردني يملأ صفحات الدوريات الأدبية والجرائد اليومية والرسائل الجامعية، وقد استطاع النقد أن يقدم صورة بانورامية موضوعية شاملة عن الشعر الأردني ورموزه منذ عهد الإمارة حتى اللحظة الراهنة.
ومهما يكن من أمر، فإن المراهنة على أن النقد هو الذي سينهض بالشعر يبدو من قبيل وضع العربة أمام الحصان. وهذا لا يقلل من شأن النقد، بوصفه علما، غير أن وظيفة النقد لم تعد توجيهية، لكنها وظيفة المحلل الدارس، الراصد للظواهر، المستنبط منها دروسها المعرفية والأدبية الجمة.
وبعد فإني أرى اليوم حاجة ملحة إلى (النقد التطبيقي)، لأن التنظير قد بات يدور حول دوائر لا يكاد يفتح مجالا فيها، بل هي تصيب المتلقي بالدوار لا محالة، فأحسن التنظير في عالمنا العربي اليوم ما كان مترجما ترجمة رصينة من أهم التيارات والاتجاهات النقدية الحديثة، التي ساعدت الذين استوعبوها وتمثلوها في إثراء نقدنا العربي التطبيقي، دون الوقوع في دوائر سحرها.
جمع قصر العمر بين الشعراء الثلاثة الراحلين حبيب وعاطف وإدوارد.. فماذا جمعهم أيضا على صعيد الإبداع؟ وأين يفترقون؟
لقد أسهم هؤلاء الشعراء في صياغة مشهد الشعر الأردني المعاصر وقد لعبوا دورا حاسما في صوغ مفهوم جديد للشعرية الأردنية خلال ربع القرن الماضي، وقد انحاز هؤلاء الشعراء الثلاثة للإنسان في صراعه ضد الظلم والطغيان، كما أن هؤلاء الشعراء قد اقترحوا أشكالا شعرية منفلتة من قبضة التقليد ومن سلطة النموذج الشعري العربي القديم، سواء على مستوى اللغة أو الشكل أو التخييل.
ويتسم المنجز النصي لإدوارد حداد بالتجرد من زوائد القول الشعري والاستفادة من قيم النثر، وذلك باستعادة تفاصيل اليومي، مسهما بذلك في تجديد الشعر الأردني ودعم مغامرة ممارساته النصية في بحثها الدؤوب عن انعطافات تتجاوز السائد والمألوف، بهذا المعنى فإن قصائد إدوارد تقوّض سلطة النوع وتقوم على اختراق كل أشكال الكتابة.
أما تجربة حبيب الزيودي فإنها تجربة شاعر يقتحم المجهولات بضوء الشعر اليسير، حريصا على امتداد مساره الكتابي وعلى إنتاج ممارسة شعرية تغري بتأويلات لا نهائية، وتتميز قصائده بالانفتاح على الكتابة باعتبارها أفقا جديدا تشتغل فيه كل الحواس.
أما قصائد عاطف الفراية فهي تتصف بالسخرية اللاذعة من الواقع، ولا تقف عند الحوار مع السجل النصي التاريخي فحسب، بل تتجاوزه إلى خلق تعالقات مختلفة وحوار عميق مع سجلات نصية وخطابية أخرى في المسرح والمونودراما.
في نقد النقد
في نقد النقد أين قصر هذا النقد وأي مشاكل موضوعية برأيك تعترض مسيرته؟
النقد الأردني جزء من حركة النقد العربي، حاول ويحاول دائما أن يقول أشياءه، وأن يرصد ظواهر معينة في الفنون الأدبية لتحديد وظائفها الأدبية، والثقافية، والجمالية، وأن يوجه المتلقين إليها محاولة منه إعانة هؤلاء المتلقين على التذوق، والدخول إلى عوالم الشعر والأدب، لكي تتكامل فيهم عناصر الوعي والعقل والثقافة بوصف هذا الثالوث أداة محركة لعجلة التطور، والتقدم.
لكن المشكلة التي تواجه النقاد والأدباء العرب اليوم هي مشكلة الجمهور، أعني القراء، مشكلة الوعي بضرورة الثقافة، أو (وعي الثقافة) والثقافة في أحد مفاهيمها مجموعة من التجارب، والرؤى، والمفاهيم، وإدراك معمق لمختلف الأنشطة الاجتماعية والإنسانية والفنية، والمعرفية السابقة والحاضرة، بعيدا عن التقليد والثقافة الجاهزة، والثقافة المنبرية، والخطابية، والإعلامية الرسمية، وغيرها مما لا يقوى على البقاء والصمود، ولا يلبي طموحات الأدباء، والفنانين، والمفكرين العرب في قارئ مثالي يمكن بناؤه وتوجيهه، ودفعه إلى الإيمان بضرورة الثقافة والعلم، والانبعاث والتحول.
وقد استطاع النقاد الأردنيون، كل حسب منهجه، وطروحاته أن يواكب بعض الحركة الأردنية منذ عهد الإمارة في العشرينيات إلى يومنا هذا، وأبرز ما يمكن أن يسجل على النقد الأردني هو غياب الجانب النقدي التطبيقي.
وأنا أرى أن النقد الأردني بخير، فهو متحرك وثري وفاعل ودوننا تلك القائمة الطويلة من القامات النقدية الأردنية، كناصر الدين الأسد، وإحسان عباس وعبد الرحمن ياغي وهاشم ياغي وخالد الكركي وعبد القادر الرباعي ويوسف بكار ونبيل حداد وعبد الفتاح النجار وسامح الرواشدة.
وكذلك القامات الأردنية مثل عبد الله رضوان ونزيه أبو نضال وإبراهيم خليل وسمير قطامي وشكري عزيز ماضي وغسان عبد الخالق ورفقة دودين وزياد أبو لبن وحكمت النوايسة ومحمد المجالي وعماد الضمور، فضلا عن سلطان الزغول ونضال الشمالي ودلال عنبتاوي وحسام العفوري وعبد الرحيم جداية وغيرهم من الأفاضل الذين لا تحضرني أسماؤهم الكريمة.
في الشعر الأردني
إذا صح اختيار رمز شعري أردني يمكن وضعه في مستوى شعري يوازي شعراء عربا ويحتل مكانا متقدما في خارطة الشعر العربي فمن تختار؟
لكل زمان دولة ورجال، ولا أرى أنه سيكون من المناسب أن يتم اختيار رمز شعري واحد والسماء مليئة بالنجوم يا صديقي، فالحركة الشعرية المعاصرة في الأردن بخير، منذ عرار مرورا بتيسير السبول ومحمد القيسي وعبد الله رضوان ويوسف عبد العزيز ومريم الصيفي وطاهر رياض وزهير أبو شايب وزليخة أبو ريشة وحسني فريز وعبد الرحيم عمر وخالد محادين ويوسف أبو لوز وحيدر محمود ومحمود فضيل التل.
وكذلك عائشة الخواجا الرازم ومحمد مقدادي وعطاف جانم ومحمود الشلبي ومها العتوم وأحمد الخطيب وعمر أبو الهيجاء وأمجد ناصر ونادر هدى وزياد العناني، وانتهاء بمئات الطاقات الشعرية الشبابية المدهشة التي تحاول أن تقدم الشيء الجديد، والمختلف، وتخلق فضاءات متميزة للشعر الأردني خصوصا، ولحركة الشعر العربي عموما.
إن الشعر الأردني جزء مهم من البانوراما الشاملة للشعر وللثقافة العربية عموما، بكل نتاجها، وحركتها وإنجازاتها.
بين الشعر والنقد
في مسيرتك تجمع بين الشعر والنقد والبحث إلى أي مدى يقيد الناقد فيك الإبداع أو يطلقه؟
إن النقد شيء والإبداع شيء، وقد يجتمعان في واحد وقد لا يجتمعان، وليس ثمة تلازم بين الإبداع والنقد؛ فهما -كما ذكرت- نشاطان مختلفان، وليس ثمة علاقة حتمية بينهما.
وقد يجمع امرؤ بينهما، وقد يجيد في كليهما، وقد يقصر في كليهما، وقد يجيد في أحدهما ويقصر في الأخرى؛ وقد أشار الجاحظ ذات مرة إلى هذه المسألة، فذكر أن صنعة النثر وصنعة الشعر لا تجتمعان إلا للقليل من العلماء، وأن من يجيد إحداهما قد لا يجيد الأخرى.
والحق أن الاشتغال بالنقد بالنسبة لي لم يقيد الإبداع؛ فالشاعر في أكثر أحواله ناقد من نوع خاص، فالقصيدة تولد في أكثر الأحيان ناقصة، أو مرتبكة إيقاعا، أو صورا، فيأتي عليها مبدعها بالتهذيب والتعديل، ودوننا في ذلك (حوليات زهير بن أبي سلمى)، وصنيع النابغة الذبياني النقدي الذي كان يمارسه مع شعر غيره ممن كانوا يحضرون سوق عكاظ.
وقد يكون الناقد أخبر بالعمل الأدبي من المبدع نفسه، وكم استنبط الناقد من نص المبدع أشياء لم تخطر في بال هذا المبدع نفسه. ولذلك لا أرى الذهاب إلى أحكام قطعية في هذه القضية إذ إن كثيرا من نقادنا العرب في القديم والحديث قد مارسوا الإبداع وأجادوا فيه.
مبدعا وناقدا
كيف تقيّم مسيرتك بصفتك مبدعا وناقدا.. وهل أنت راض عن تناول زملائك النقاد لمسيرتك الإبداعية؟
النقد نشاط مختلف عن الإبداع، وهو يحتاج إلى خبرة وحصيلة معرفية عميقة، إنه وليد ذوق مدرب، واطلاع غزير على النصوص الأدبية، وهو نشاط عقلي منظم، يقوم على مناهج وضوابط، لا يتم بصورة عفوية أو تلقائية. وإذا سألت عن تجربتي النقدية المتواضعة فأنا لم أُقْدم على كتابة النقد في ليلة وضحاها، فالنقد عندي نشاط ثقافي وفكري لا بد أن يسبق بقراءات دائبة، وتجارب متواترة، ومعايشة مع إبداعية الآخرين بعمق وتفحص وأمانة.
لقد قدمت للمكتبة العربية أكثر من 20 كتابا في الشعر، والنقد، وأدب الحوار، وعشرات الدراسات والبحوث ومئات المقالات، ولا أزال وربما سأغادر الحياة وأنا أشعر بنقص معرفي كبير. (وكل الذي أعلمه أني لا أعلم شيئا) كما قال سقراط.
لقد عرفت الحياة بكل شمسها وصقيعها، نسيمها وغبارها، حبها وغربتها واغترابها، المكان القريب، والمكان البعيد، ولم أكن في هذا كله منتميا لأحد سوى انتمائي إلى الوطن، والأمة، وشرف الإنسان.
أما أفضال النقاد عليّ فهي كثيرة لا تحصى؛ وأنا راض تماما عن الجهود النقدية التي تناولت مشروعي الإبداعي والتي أعتز بها وأعتبرها وساما على صدري وعلى صدر القصيدة.
وأنا أرى أن النقد الأدبي نشاط فكري مستقل، وهو نشاط فعال، لا غنى للأدب عنه، حيث إن الناقد هو الذي يبرز الأديب المتميز، وهو الذي يذيع ذكره، ويرفع شأنه، وهو الذي يعرّف الناس به، وينوّه بتميزه، ويفسّر كلامه، ويقربه من عقول القراء وأذواقهم.
بين الشعر والرواية
تناولت في دراساتك النقدية الرواية.. ثمة نزوح منذ فترة ليست بقصيرة إلى المتابعة الروائية في المشهد الأردني.. فأيهما برأيك يسجل حضورا أكبر؟
إن للشعر ميادينه كما أن للرواية ميادينها، والمسألة عندي ليست مسألة شعر أو سرد، بل هي الكلمة التي تطلق بشجاعة وجرأة لينصت الناس لها. وهي الكلمة القادرة على تدوير الحياة ظاهرها وباطنها، وصولا إلى المياه الخفية في أعماق الأرض.
والأيام سجال بين الأنواع الأدبية عبر التاريخ، فقد يتراجع الشعر لحساب الرواية في الانتشار، وذلك لشعبوية الرواية اليوم، وسهولة تعاطي القارئ العام معها مقارنة بالشعر، وهو ما تتأبى عنه لغة الشعر وطبيعته الخاصة.
وسيظل الشعر لوحة خالدة منقوشة بين حضور وغياب، يصح معه وفيه سؤال البداهة عن معنى ارتسام الإنسان بكلمات، وبدفقات شعور تنفلت وتغيب ليظل جرسها ملتقطا يرن خارج الأزمان والأمكنة.
وسأظل أنا مع الشعر الذي ينشد رؤية ما لا يرى، ويكتشف ما لا يكون، ويقد الصخور الصماء مثلما يحرك أوراق الأشجار، ويجود بالحسن والجمال على أصوات الطيور، وسأظل مع الشعراء الذين يلتقطون مدارج شعريتهم مثلما يلتقط الفنان الفوتوغرافي صورته كما يرى (غاستون باشلار).الجزيرة
مدار الساعة ـ نشر في 2024/09/27 الساعة 12:02