صبري ربيحات يكتب: شجرة الطلح

د. صبري ربيحات
مدار الساعة ـ نشر في 2024/09/01 الساعة 12:53
عبر رحلته الطويلة على الارض كان الهاجس الاول بالنسبة للانسان يتمثل في البحث عن الطعام وحماية وجوده بتجنب المخاطر ودفع كل ما قد يهدد وجوده.
في غياب المعرفة والثقافة كان على الإنسان أن يكتشف بنفسه ويتعظ بتجاربه فلا مدارس ولا جامعات ولا كتب وروايات ولا وسائل اتصال مرئية او مسموعة كان عليه ان يكتشف بالمحاولة والخطأ كل ما في بيئته من موارد واخطار وتقلبات ويبتكر الأدوات والوسائل والاساليب التي تمكنه من التكيف والاستمرار . وكل ما لديه ادوات بدائية ومعرفة محدودة وتنظيم عصبوي تحكمه القوة البدنية ويكاد يخلو من أشكال التخصص و قواعد تقسيم العمل التي نعرفها اليوم.كان همه الأول الحصول على الغذاء والتعرف على اوجه التهديد وامتلاك ادوات الدفاع عن الذات ومحاولة بناء نظام يساعده على العيش الآمن في نظام بيئي يجنبه المخاطر ويكفل له الاستقرار .في رحلة الاستكشاف والتصنيف حصل الاجتماع البشري في صوره البدائية فتشكلت مجموعات الصيد الصغيرة فلاحظت ان هناك بعض الموجودات والاحياء التي اعانتها على الوجود والاستمرار فتعلقت بها ومنحتها قيمة ومعنى لتصبح صديقة لها تتفاءل بها وتستوطن وجدان افرادها وتتفق الجماعة على معنى رمزيتها ودلالاتها . ومع مرور الزمن اكتشف الإنسان المزيد من خصائصها ومزاياها فاحبها لتصبح مكونا من مكونات ثقافته ومعانيها .في الثقافة العربية تحظى الجبال والقرى والتضاريس والاماكن وبعض الحيوانات والأشجار بقيمة ورمزية عالية حيث يشترك الجميع في حمل هذه القيم والمعاني ويستعدون للدفاع عنها ..في مصر تشكل الأهرامات رمزا مهما للحضارة الفرعونية وشهادة تاريخية على قدرة انسان هذه الارض على الانجاز كما تعتبر مصر هبة النيل. وفي الاردن يعتد الناس بنهر الاردن باعتباره النهر الذي تعمد فيه المسيح ويفخر اهالي البادية الشمالية بانتسابهم الى جبل العرب .على وجه اخر تمنح الجماعات لبعض النباتات والحيوانات التي تجاورها مكانة تسمو على غيرها من موجودات بيئاتهم فتحبها وتستدخلها في اطار هوية الجماعة لأنها ترى في خصائصها وسماتها وطبائعها ما يثير الاعجاب .لقد رددنا بحالة من التوحد مع اللحن اغاني فيروز لجبل الشيخ وزهر البيلسان و تمتمنا كلمات حيدر محمود وهو يطالب شجر الزيتون ان يشهد على وفاء الاردنيين للقيادة ...في الكرك تغنى الكركيون بشيحان وحرضت ميسون الصناع اهل الاردن على زيارة الاغوار وزراعة البساتين . في كل مكان وزمان ظل اليرموك يثير في نفوس العرب والمسلمين الكثير من مشاعر الزهو و معاني العزة والشجاعة ولا تزال سهول مؤتة تجدد في أهلها الاحساس بعمق صلتهم بالتاريخ. لقرون طويلة ولفترة امتدت حتى اكتشاف النفط في الجزيرة العربية وتغير نمط الحياة من البداوة و الرعي الى اقتصاد الريع والوفرة كانت شجرة الطلح احدى اهم موجودات الصحراء العربية والصديقة الاهم لبيئة عرفت بانها الاشد قسوة على ساكنيها ..على امتداد مساحات الصحراء العربية تتناثر اشجار السدر والطلح والاكاسيا التي نبتت ونمت وبقيت شاهدا على كل ما مرت به الصحراء من تغيرات واحداث.للشجرة العملاقة قدرة على العيش في اكثر الأراضي والمناخات جفافا وقسوة يساعدها على ذلك تمدد جذورها الملتوية ونهايات افرعها الابرية و تمددها في اتجاهات مختلفة لتشكيل مظلات طبيعية تخفف من آثار الشمس على جذورها و يستظل تحتها الرعاة والفرسان والعابرين والقطعان . تعتبر أوراق الطلح الصغيرة وثمارها البقولية احد اجود و اطيب انواع الغذاء الذي تقتات عليه الابل والمواشي في أشد ايام الصيف قسوة كما توفر ازهارها الرحيقية العطرية الجذابة مراع لا تنضب لأسراب النحل الذي ينتج اجود انواع العسل وربما الاطيب مذاقا واحد اغلى الانواع ثمنا .في الثقافة العربية للشجرة قيمة ومعان ودلالات اختزلتها عبر عشرات القرون من المعايشة فقد قال العرب في الشجرة اشعارا واختاروا الأسماء للمواليد من اسمها واشتقاقاته واعتبروا وجودها نعمة تستحق الشكر وصحتها وعطاءها باعث للخير والطمانينة. السدر والطلح والسنديان والعرعر والرتم مثل القبائل الاردنية طيبة وقوة وصبرا وصلابة وعطاء....فكلها وكلهم كتراب هذه الارض الخيرة المباركة التي انبتت الديانات وامنت بالوحدانية وانتقلت من الوثنية الى اللامتناهي.
مدار الساعة ـ نشر في 2024/09/01 الساعة 12:53