بطَّاح يكتب: بين كيسنجر 'الاستراتيجي”، وبلينكن 'التكتيكي'!
مدار الساعة ـ نشر في 2024/08/08 الساعة 13:29
يُعّد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر (شغل الموقع بين 1973 – 1977) من ألمع وزراء خارجية الولايات المتحدة الأمريكية تاريخياً حتى إنّ الرئيس الأسبق نيكسون قدّمه على أنه "وزير خارجية العصر"، وقد قام "بإنجازات" كبيرة حتى وإن اختلفت الآراء حولها فقد أنهى حرب فيتنام (فاز على أثرها بجائزة نوبل)، كما أذاب الجليد مع الاتحاد السوفياتي، وأعاد الصين إلى النظام العالمي بعد زيارته الشهيرة لها مع رئيسه نيكسون حيث أصبحت الصين عضواً دائماً في مجلس الأمن بدلاً من "تايوان".
ولعلّ الأهم في "إنجازاته" على مستوى المنطقة العربية هو تمكّنه من هندسة اتفاقيات فك الارتباط بين مصر وإسرائيل على أثر حرب 1973 والتي أخرجت مصر في الواقع من الصراع العربي الإسرائيلي وأحلّت سلاماً بين البلدين منذ ذلك الوقت وحتى الآن.إنّ المتأمل في المسيرة السياسية لكيسنجر -وبغض النظر عن حبنا له أو كرهنا إياه- لا يملك إلّا أن يعترف بأنه دبلوماسي "استراتيجي" نظر إلى الأمور "نظرة استراتيجية" ومن زاوية مصالح بلاده، فعمل على أنهاء الحرب الكارثية التي تورّطت فيها أمريكا في فيتنام، وطبّع العلاقات "الندية" مع الاتحاد السوفياتي كقوة كونية منافسة للولايات المتحدة، ورأى أن من غير الممكن أن تظل الصين (خُمس البشرية، ومالكة للسلاح النووي) خارج المنظومة الدولية، وفيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي فقد رأى أن حالة "اللا سلم واللا حرب" يجب أن تنتهي بين العرب وإسرائيل، ولذا حرض من طرف خفي على قيام مصر بهجوم محدود على إسرائيل لتحريك القضية، ولكن عندما حدثت الحرب فعلاً وفوجئت إسرائيل في البداية فتح خزائن السلاح الأمريكي لإسرائيل بحيث تمكنت من إيقاف الجيش المصري بل وإحداث ثغرة "الدفرسوار" ومحاصرة الجيش المصري الثالث، الأمر الذي أتاح له اقتراح معالم تسوية تضمن تحقيق الأهداف الأساسية لكل من مصر وإسرائيل فيما عُرف لاحقاً باتفاقية "كامب ديفيد" التي تمّ توقيعها في عام 1978.لقد كان هنري كيسنجر استاذاً جامعياً (مختصاً في التاريخ والعلوم السياسية، درس بعمق المسيرة السياسية "لميتريخ"، ووعى أبعاد معاهدة ويستفاليا) ذا نظرة استراتيجية شمولية عمل في مراكز البحث، وعمل كمستشار للأمن القومي قبل أن يصبح وزيراً للخارجية، الأمر الذي مكّنه من تطبيق رؤية استراتيجية تستند إلى النظرية السياسية التي تعلّمها في أعرق الجامعات الأمريكية (هارفارد)، كما تستند إلى الخبرة التي اكتسبها من خلال عمله في المواقع التنفيذية الرئيسية في الإدارة الأمريكية (مستشار أمن قومي ووزير خارجية).أمّا بلينكن، وزير الخارجية الأمريكية الحالي والذي يشغل موقعه منذ عام 2021 فإنه -رغم تعليمه الراقي في "هارفارد"، و"كولومبيا" والمعاهد الفرنسية- ورغم عمله في ثلاث إدارات ديموقراطية (كلينتون، أوباما، بايدن) فإنه لم يقدم أيّ إنجاز إستراتيجي حتى الآن لا على مستوى العلاقات الروسية الأمريكية، ولا على مستوى العلاقات الصينية الأمريكية، ولا على أيّ مستوى عالمي آخر في الواقع.ولعلّ رؤية "بلينكن" التكتيكية تتضح أكثر ما تتضح في تعامله مع الحرب الإسرائيلية على غزة، فقد زار المنطقة ثماني مرات، وكان المأمول في كل مرة أن يحقق "خرقاً" (Breakthrough) يتمثل في إنجاز صفقة بين المتحاربين، واتخاذ خطوات ملموسة تتعلق باليوم التالي للحرب والبدء بتنفيذ فكرة "حل الدولتين".إنّ ما حدث في الواقع هو أن زياراته لم تتمخض عن شيء فعلي ملموس حتى على مستوى زيادة المساعدات الإنسانية إلى غزة، أو التقليل من نسب قتل المدنيين في الحرب الانتقامية التدميرية التي تشنها إسرائيل على القطاع منذُ ما يزيد عن ثمانية أشهر، وهو ما أعلنه من أهداف لزياراته.إن ضخامة إنجازات "كيسنجر" إذا ما قورنت بإنجازات "بلينكن" قد تعود إلى ما يلي:أولاً: أن كيسنجر قارئ ذكي للتاريخ وللسياسة، وقد وظف معرفته النظرية في تبني سياسات أثرت على مجريات الأحداث في العالم بل ما زالت ذات أثر على واقع الأمور حتى الآن كما يشير إلى ذلك "مارتن انديك" الدبلوماسي الأمريكي الشهير، حيث يُطلق عليه لقب "سيد اللعبة". أما بلينكن -ومع أنه حصل على تعليم راقٍ في أفضل الجامعات الأمريكية والفرنسية إلا أنه عمل بذهنية "الموظفين" لا بذهنية "الأكاديميين" أصحاب الرؤية الاستراتيجية.ثانياً: أن كيسنجر عمل مع رئيس أمريكي قوي هو "ريتشارد نيكسون". صحيح أن "نيكسون" انتهى مستقيلاً من الرئاسة بسبب فضيحة "ووترجيت" إلا أن هذا لا ينفي أنه كان رئيساً قوياً، وصاحب خبرة طويلة في عالم السياسة، أما بلينكن فقد كان حظه أن يعمل مع رئيس ضعيف نسبياً هو الرئيس بايدن، ولذا فإنه افتقر إلى دعم وإسناد رئيس مستعد أن يأخذ الأمور إلى نهاياتها إذا ما اقتضى الأمر ذلك.ثالثاً: أن كيسنجر وجد بيئة خصبة ناضجة لتطبيق أفكاره ومرئياته وبالذات في الشرق الأوسط حيث كان الرئيس المصري في ذلك الوقت (أنور السادات) يتوق إلى تأسيس مشروعية سياسية خاصة به من خلال عقد اتفاق مع إسرائيل، والتحالف مع الولايات المتحدة كبديل لسياسات سلفه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.أما بلينكن فقد وجد بيئة غير مُتقبّلة للحلول وبالذات بسبب وجود رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني نتنياهو في سدة السلطة. إنّ فرصة بلينكن نادرة لو استطاع انتهازها لتطبيق "حل الدولتين" وهي السياسة الأمريكية الرسمية المُعلنة، ولكن من الواضح أنه يصطدم بالحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة وعلى رأسها نتنياهو، والواقع أن التاريخ سيسجل لبلينكن إنجازاً دبلوماسياً تاريخياً لو استطاع حل المشكلة الفلسطينية (من خلال تنفيذ حل الدولتين) التي ما زالت تؤرق الشرق الأوسط والعالم منذ ما يزيد عن 76 عاماً.إنّ التاريخ قد سجل لكيسنجر أنه أنهى حرب فيتنام، وأعاد الصين إلى النظام العالمي، وأنهى الصراع بين مصر وإسرائيل، فماذا سوف سيسجل لبلينكن يا تُرى؟!
ولعلّ الأهم في "إنجازاته" على مستوى المنطقة العربية هو تمكّنه من هندسة اتفاقيات فك الارتباط بين مصر وإسرائيل على أثر حرب 1973 والتي أخرجت مصر في الواقع من الصراع العربي الإسرائيلي وأحلّت سلاماً بين البلدين منذ ذلك الوقت وحتى الآن.إنّ المتأمل في المسيرة السياسية لكيسنجر -وبغض النظر عن حبنا له أو كرهنا إياه- لا يملك إلّا أن يعترف بأنه دبلوماسي "استراتيجي" نظر إلى الأمور "نظرة استراتيجية" ومن زاوية مصالح بلاده، فعمل على أنهاء الحرب الكارثية التي تورّطت فيها أمريكا في فيتنام، وطبّع العلاقات "الندية" مع الاتحاد السوفياتي كقوة كونية منافسة للولايات المتحدة، ورأى أن من غير الممكن أن تظل الصين (خُمس البشرية، ومالكة للسلاح النووي) خارج المنظومة الدولية، وفيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي فقد رأى أن حالة "اللا سلم واللا حرب" يجب أن تنتهي بين العرب وإسرائيل، ولذا حرض من طرف خفي على قيام مصر بهجوم محدود على إسرائيل لتحريك القضية، ولكن عندما حدثت الحرب فعلاً وفوجئت إسرائيل في البداية فتح خزائن السلاح الأمريكي لإسرائيل بحيث تمكنت من إيقاف الجيش المصري بل وإحداث ثغرة "الدفرسوار" ومحاصرة الجيش المصري الثالث، الأمر الذي أتاح له اقتراح معالم تسوية تضمن تحقيق الأهداف الأساسية لكل من مصر وإسرائيل فيما عُرف لاحقاً باتفاقية "كامب ديفيد" التي تمّ توقيعها في عام 1978.لقد كان هنري كيسنجر استاذاً جامعياً (مختصاً في التاريخ والعلوم السياسية، درس بعمق المسيرة السياسية "لميتريخ"، ووعى أبعاد معاهدة ويستفاليا) ذا نظرة استراتيجية شمولية عمل في مراكز البحث، وعمل كمستشار للأمن القومي قبل أن يصبح وزيراً للخارجية، الأمر الذي مكّنه من تطبيق رؤية استراتيجية تستند إلى النظرية السياسية التي تعلّمها في أعرق الجامعات الأمريكية (هارفارد)، كما تستند إلى الخبرة التي اكتسبها من خلال عمله في المواقع التنفيذية الرئيسية في الإدارة الأمريكية (مستشار أمن قومي ووزير خارجية).أمّا بلينكن، وزير الخارجية الأمريكية الحالي والذي يشغل موقعه منذ عام 2021 فإنه -رغم تعليمه الراقي في "هارفارد"، و"كولومبيا" والمعاهد الفرنسية- ورغم عمله في ثلاث إدارات ديموقراطية (كلينتون، أوباما، بايدن) فإنه لم يقدم أيّ إنجاز إستراتيجي حتى الآن لا على مستوى العلاقات الروسية الأمريكية، ولا على مستوى العلاقات الصينية الأمريكية، ولا على أيّ مستوى عالمي آخر في الواقع.ولعلّ رؤية "بلينكن" التكتيكية تتضح أكثر ما تتضح في تعامله مع الحرب الإسرائيلية على غزة، فقد زار المنطقة ثماني مرات، وكان المأمول في كل مرة أن يحقق "خرقاً" (Breakthrough) يتمثل في إنجاز صفقة بين المتحاربين، واتخاذ خطوات ملموسة تتعلق باليوم التالي للحرب والبدء بتنفيذ فكرة "حل الدولتين".إنّ ما حدث في الواقع هو أن زياراته لم تتمخض عن شيء فعلي ملموس حتى على مستوى زيادة المساعدات الإنسانية إلى غزة، أو التقليل من نسب قتل المدنيين في الحرب الانتقامية التدميرية التي تشنها إسرائيل على القطاع منذُ ما يزيد عن ثمانية أشهر، وهو ما أعلنه من أهداف لزياراته.إن ضخامة إنجازات "كيسنجر" إذا ما قورنت بإنجازات "بلينكن" قد تعود إلى ما يلي:أولاً: أن كيسنجر قارئ ذكي للتاريخ وللسياسة، وقد وظف معرفته النظرية في تبني سياسات أثرت على مجريات الأحداث في العالم بل ما زالت ذات أثر على واقع الأمور حتى الآن كما يشير إلى ذلك "مارتن انديك" الدبلوماسي الأمريكي الشهير، حيث يُطلق عليه لقب "سيد اللعبة". أما بلينكن -ومع أنه حصل على تعليم راقٍ في أفضل الجامعات الأمريكية والفرنسية إلا أنه عمل بذهنية "الموظفين" لا بذهنية "الأكاديميين" أصحاب الرؤية الاستراتيجية.ثانياً: أن كيسنجر عمل مع رئيس أمريكي قوي هو "ريتشارد نيكسون". صحيح أن "نيكسون" انتهى مستقيلاً من الرئاسة بسبب فضيحة "ووترجيت" إلا أن هذا لا ينفي أنه كان رئيساً قوياً، وصاحب خبرة طويلة في عالم السياسة، أما بلينكن فقد كان حظه أن يعمل مع رئيس ضعيف نسبياً هو الرئيس بايدن، ولذا فإنه افتقر إلى دعم وإسناد رئيس مستعد أن يأخذ الأمور إلى نهاياتها إذا ما اقتضى الأمر ذلك.ثالثاً: أن كيسنجر وجد بيئة خصبة ناضجة لتطبيق أفكاره ومرئياته وبالذات في الشرق الأوسط حيث كان الرئيس المصري في ذلك الوقت (أنور السادات) يتوق إلى تأسيس مشروعية سياسية خاصة به من خلال عقد اتفاق مع إسرائيل، والتحالف مع الولايات المتحدة كبديل لسياسات سلفه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.أما بلينكن فقد وجد بيئة غير مُتقبّلة للحلول وبالذات بسبب وجود رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني نتنياهو في سدة السلطة. إنّ فرصة بلينكن نادرة لو استطاع انتهازها لتطبيق "حل الدولتين" وهي السياسة الأمريكية الرسمية المُعلنة، ولكن من الواضح أنه يصطدم بالحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة وعلى رأسها نتنياهو، والواقع أن التاريخ سيسجل لبلينكن إنجازاً دبلوماسياً تاريخياً لو استطاع حل المشكلة الفلسطينية (من خلال تنفيذ حل الدولتين) التي ما زالت تؤرق الشرق الأوسط والعالم منذ ما يزيد عن 76 عاماً.إنّ التاريخ قد سجل لكيسنجر أنه أنهى حرب فيتنام، وأعاد الصين إلى النظام العالمي، وأنهى الصراع بين مصر وإسرائيل، فماذا سوف سيسجل لبلينكن يا تُرى؟!
مدار الساعة ـ نشر في 2024/08/08 الساعة 13:29