ماذا أرادت حماس من اختيار السنوار؟

مدار الساعة ـ نشر في 2024/08/07 الساعة 09:16

مدار الساعة - كتب: محمد الأمين عساف/ معهد السياسة والمجتمع - قبل أن يمر أسبوع على اغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، أعلنت الحركة اختيارها ليحيى السنوار رئيس الحركة في قطاع غزة، رئيساً للمكتب السياسي خلفاً لهنية. جاء هذا بعد أن كانت التوقعات قد تشاكلت بخصوص من يمكن أن يسد هذه الفجوة القيادية، وطرحت أسماء ابتداءً مما يمكن تسميته تيار حماس البراغماتي المتمثل بخالد مشعل، وصولاً إلى تيارها الأكثر جذرية إن جاز التعبير، والمتمثل بخليل الحية نائب رئيس الحركة في غزة. ومع تردد أصوات أشارت للسنوار كخليفة متوقع، إلا أن هذا الخيار وعلى ما يبدو لم يكن يُؤخذ على محمل الجد وبقي النقاش يدور بشكل أكبر بين ثنائية مشعل والحية حتى مساء الثلاثاء حين أعلنت الحركة السنوار رئيساً لها.

وفقاً لاصطلاحات عدة، وتوقعات سياقية، جاء خبر اختيار السنوار ليكون مما يمكن وصفه ليس بالصادم؛ ولكنه “فوق المتوقع”. فحماس ومنذ استحداثها لمكتبها السياسي، كان رؤساؤه من المقيمين خارج فلسطين، وذلك لاعتبارات متعلقة بالحضور الدبلوماسي والسياسي للحركة في الخارج، وقدرتها على التواصل مع الفواعل السياسية المختلفة وخصوصاً العربية، فابتداءً من موسى أبو مرزوق، مروراً بخالد مشعل ووصولاً إلى إسماعيل هنية، كانوا يترأسون المكتب من خلال إقامتهم خارج فلسطين. وهو ما أبقى خيار خلافة السنوار لهنية أقل حضوراً في خيال المحلل السياسي، خصوصاً إذا ما أضفنا الاعتبارات المتعلقة بخصوصية المرحلة وتطلبها لمستوىً عالٍ من الاتصال السياسي مع فواعل عديدة، والانتقال بين الدول التي تساهم في الاتصالات السياسية وسط مشهد الحرب. أو التوقع بأن الاعتبارات السياسية والدبلوماسية قد تدفع إلى اختيارٍ قياديٍّ أقل ارتباطاً بأحداث السابع من أكتوبر، أو أكثر بعداً عنها.
إن من أهم ما يجب قراءته أيضاً الصيغة المختلفة لعملية الاختيار عن آليات التصدير القيادي المعتادة في الحركة. فحماس اعتادت أن تختار رئيسها بالانتخاب، بينما لم تتم الإشارة هذه المرة إلى عملية انتخابية بقدر ما أشير إلى عمليات تشاور، و”اختيار” للسنوار رئيساً للحركة. على الرغم من أن القرار جاء كما قلنا خارج أو “فوق المتوقع” إلا أنه يمكن قراءة السياقات التي أنتجته، والرسائل التي حملها مثل هذا الاختيار، والأهداف التي ترجى منه. وهي التي يمكن أن نضمّنها في أربعة محاور أساسية؛ الأول، وهو المتعلق بكون القرار إلى حد بعيد يمثل رد فعل على طبيعة الأداء المتصلّب الذي مارسته قيادة الاحتلال طوال الفترة الماضية من الحرب، والثاني، وهو المتعلق بالرسائل الإقليمية لتي توجهها الحركة للحلفاء أو الخصوم، والثالث، وهو المتعلق باعتبارات الرأي العام في غزة وفلسطين وخارجها، والرابع، وهو المتعلق بحالة التيارات في الحركة وتويع توازنات القوة.
حالة التيارات وتوازنات القوة في الحركة
نبدأ من النقطة الأخيرة التي أوردناها، وهنا نشير إلى أن حركة حماس شهدت بروزاً أكثر وضوحاً لحالة التيارات في داخلها بعد الربيع العربي، ولربما أن هذا موضوع يحتاج إفراداً في مساحة مخصصة، إلا أن ما يمكن قوله على عجاله، هو أن أسهُم التيار البراغماتي الذي قاد الحركة حتى عام 2016 برئاسة مشعل، شهد تراجعاً ملحوظاً مع تغير معادلات الإقليم، وحالة الانقطاع بين العرب وحماس وتطور علاقتها مع إيران، وصولاً لما يمكن وصفه بأن إيران أصبحت الداعم الوحيد للحركة. وهنا كما تصف العديد من التحليلات بدأ التيار الأبعد عن البراغماتية والذي تمت تسميته بعدة مسميات مثيل تيار إيران، أو التيار العسكري، وأميل إلى تسميته بـ “يمين الحركة”، بدأ بتوسيع نفوذه وازداد حضوره وتمثل ذلك بفوز السنوار رئيساً للحركة في غزة لمرتين، كانت الأخيرة أكثرهما صعوبة واحتداماً في المنافسة بين التيارات، لتعاد الانتخابات بين نزار عوض الله ويحيى السنوار ثلاث مرات قبل أن يفوز الأخير بمنصب رئاسة الحركة في القطاع.
إن هذا التيار اليوم على ما يبدو هو التيار الأكثر حضوراً وذو الصوت الأعلى في الحركة، ولا يمكن استثناء معامل الوزن التياراتي من معادلة اختيار السنوار حتى وإن كان اختياره تم وفقاً لعملية مشاورة واختيار توافقي، فما يزال لكثافة ووزن حضور التيار، ولسيطرته على الحالة في غزة، وقربه من ميدان المعركة وإدارته المباشرة، آثاراً تعزز من شرعية وإمكانية اختياره رئيساً للحركة.
ومع ذلك، فإن نسب اختيار السنوار قائداً للحركة إلى حالة توازن القوى داخلها وفقط يمثّل تضخيماً لوزن هذا العامل، إضافةً إلى كونه تقزيم للحالة الإدراكية، والقصدية في تسمية الرجل قائداً للمرحلة، وتجريداً للمضامين التي قد يحملها اختياره، وعن قصد. وهو ما يدفعنا إلى مناقشة النقاط الثلاث التالية.
التصلّب بالتصلّب، ومحاولة تصفير الضغوط
إن من أهم ما يمكن ملاحظته خلال عمليات التفاوض التي جرت خلال الأشهر الفائتة، أن قيادة الاحتلال الإسرائيلي، متمثلةً بنتنياهو، كانت غير ميّالة في الغالب إلى إتمام اتفاقات تنهي المعركة نهائياً، وكانت ميالة إلى الذهاب في الحرب إلى أبعد مدى، يُبقي القطاع عاجزاً، أولاً على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية، وتحويله إلى منطقة منكوبة وتكريس مشهد عقابي عام. وثانياً، على صعيد جعل حماس وجناحها العسكري عاجزين عن السيطرة مرةً أخرى على القطاع، أو إعادة إنتاج نظام إدارة وحكم هناك. وهو ما دفع باستمرار إلى انسحابات وتزمت في عمليات التفاوض بغية اكتساب الوقت لتحقيق هذه الأهداف، ناهيك عن الحاجة لتحقيق ضربات معنوية واغتيالات كبرى.
لم يظهر التصلب في المفاوضات فقط بهذا الشكل، لكن الأهم والأكثر وضوحاً وصراحةً، كان اغتيال رئيس المكتب السياسي للحركة؛ مع العلم أنه كان الواجهة الأساسية في العملية التفاوضية عبر الوسطاء. وفي ذلك رسالة واضحة بعدم الاكتراث إلى حدٍ بعيد بإنهاء عاجل للمفاوضات. أو من وجهة نظر أخرى، أنها محاولة لتوجيه ضربة موجعة للحركة، تظهر تفوقاً اسرائيلياً، وبالتالي تجبر الحركة على إعادة دراسة خياراتها، وتقديم وجوه يُعتقد أنها قد تذهب في منحى أكثر تنازلية.
يبدو أن التصلب بالمفاوضات وخصوصاً بعد عملية الاغتيال قد أوصل هذه الرسالة لحماس، لكنه لم يأت بالنتائج المتوقعة، بل عاد برد فعل متصلب من الحركة باختيار القيادة الميدانية للحرب كقيادة للحركة. بل وأعتقد أن واحد من أهم الاعتبارات التي راعتها حماس، هو أن اختيار قيادات أكثر براغماتية كان ليوصل رسائل محفزة على مزيد من التزمت والتصلب في المفاوضات من قبل إسرائيل لأنه قد يقرأ على أنه استجابة للضغوطات ويزيد من حدتها، وهو ما دفعها إلى توجيه رسالة عكسية، مفادها أن الضغط والتزمت لن يؤدي إلى حالة تطويع سياسي، وهو خيار قد يُقرأ من قبل البعض على أنه مغامر ويمثل مخاطرة سياسية في ظل ظروف الحرب الحالية، ولكنه قد يقرأ من قبل آخرين على أنه وسيلة الحماية الوحيدة أيضاً تجاه مزيد من التصعيد والضغط الإسرائيلي.
الرسائل الإقليمية: المتن للحلفاء، والهامش للبقية
لربما أيضاً أن واحدة من أهم الاعتبارات التي قد تكون وجهت اختيار حماس للسنوار هو محاولتها إيصال رسائل سياسية في داخل المنطقة. وأهم المتلقين لهذه الرسائل هم حلفاء حماس قبل غيرهم وتحديداً إيران. فبعد حرب دامت عشرة أشهر، وبعد اغتيالات عسكرية وسياسية واسعة في صفوف الحركة، ودمار واسع وهائل في القطاع لم يعهد له مثيل حديث. فإن الحركة على ما يبدو تريد أن تؤكد لحلفائها تصميمها على المسار الذي تسير فيه. وتحاول أن تؤكد على استمراريتها “موحدة” كجزء من حلف ما عرف بأسم “محور المقاومة”. أي أن ما نقوله هنا، هو أن حماس عملت على ما يشبه بتجديد العهود والمواثيق مع المحور من خلال هذا التصدير القيادي. فيما نعتقد أنه محاولة لضمان التزامات المحور تجاه الحركة؛ على الأقل بالسقف الحالي.
بل أيضاً يمكن اعتبار هذا الاختيار، وهذا التأكيد على التحالف، محاولة لتحفيز الرد الإيراني ورد محور المقاومة على اغتيال هنية. حيث يبدو أنه ما من شيء قد يفيد حماس اليوم كأحد خيارين، الأول وهو توسيع رقعة الصراع ومحاولة إدماج عملية طوفان الأقصى ضمن سياق إقليمي، ليصبح الطوفان أكثر وزناً وأهميةً، ويمكن للحركة هنا أن تؤكد على قيمته المتجاوز لكونه عملية أسر واسعة النطاق، إلى كونه عملية إعادة ترتيب للإقليم، وتغيير للمعادلات الكبرى من حول فلسطين. والثاني وهو إيقاف الحرب وتوقيع اتفاق يفضي إلى خروج الاحتلال من غزة وإتمام صفقة تبادل، وهو ما قد تسعى حماس إلى تمريره في ظل ضغوطات إيران وتحالفها على من في الإقليم، والولايات المتحدة؛ للتخفيف من حدة الرد على الاغتيالات أو إلغائه كليّاً.
أما على هامش هذه الرسالة، فيبدو أن حماس تريد أن تستفيد من هذا الاختيار في التأكيد على أن اغتيال هنية أوصل رسالة بأن الكل مستهدف؛ القيادة السياسية والعسكرية، في الداخل وفي الخارج، فإن كان كذلك، وكون القيادات التي تحاول تسيير عمليات التفاوض ليست أكثر حصانة من غيرها؛ فلتكن القيادة في غزة، ومن دون توفير شروط تفاوض مغايرة، وتوفير حصانة للقيادات السياسية، فإن المسار سيكون تصعيدي وصارم.
اعتبارات الرأي العام، في غزة وفي خارجها
لا يمكن تجاهل أن السنوار بصفته قائد الحركة في غزة، ومع الزخم الذي حققته الضربة الأولى في السابع من أكتوبر، قد حقق شعبية واسعة النطاق على مستوى القواعد العربية، حيث أصبح الرجل يمثل صورة بطولية إلى حدٍ ما. وفي ظل تراجع صورة مكاسب اليوم الأول لحساب الدمار الواسع والكلفة المادة والبشرية الكبيرة التي لحقته؛ يبدو أن إعادة تقديم السنوار إلى الواجهة، واستدعاء قيادة اليوم الأول مرةً أخرى إلى المشهد، قد توصل رسائل بأن تلك القيادة ما زالت حاضرة، وأن المعركة لم تنته طالما أن هذه القيادة موجودة. وهذا قد يبدو وخصوصاً بعد الساعات الأولى من اختياره، أنه قد آتى أكله بالفعل، حيث إن هناك موجة احتفالية واسعة بحضوره مرةً أخرى، وكأنه استعيد من الموت ومن تحت الركام ليمنح الحرب عمراً آخر. أي أنه وبالفعل يبدو أن الحركة تعول على الصورة التي بناها السنوار لنفسه خلال “سيف القدس” و “طوفان الأقصى” لتجديد شعبية الحركة، وضخ روح معنوية في القواعد الشعبية مرةً أخرى.
قد يبدو أن من أفضل ما تقدمه الحركة للمجتمع الغزي، التأكيد على أن قيادة الحركة هي في القطاع، أن من يدفعون الكلفة، والمتواجدون في القطاع هم ذاتهم من يقودون المشهد، وأن الحرب التي تدفع ثمنها غزة تقودها غزة. خصوصاً في وقت كان يشار فيه كثيراً إلى قيادة الخارج كمكون منفصل عن الواقع يفاوض باسم من يدفعون الدم. وعلى الرغم من أن هنية وكونه من القطاع ومع استشهاد أفراد عائلته ثم استشهاده كان يمنح الحد الأدنى من هذه الصورة، لكن وجود القيادة المركزية للحركة في القطاع يبدو أنه يقدم الصورة بدرجة أكبر من الوضوح والإرضاء، مما قد يساعد بترميم الحاضنة الشعبية حول حماس في القطاع.
خاتمة
على الرغم من كل هذه المحددات التي قد تقدم تفسيرات لاختيار السنوار رئيساً للحركة، وتمنح القرار أرضية عقلانية، إلا أن هناك تخوفات جدية يطرحها كثيرون من تبعات، تموضع قيادة الحركة تحت الحصار، وفي مركز الاستهداف. وتأثير ذلك على الاتصال مع الفواعل السياسية في المنطقة، وهذا ليس بشأن التفاوض فقط، بل لتحصيل الدعم، وحتى بخصوص الاتصال المباشر مع الدول العربية. كما أن هذا الخيار الذي قد يبدو على أنه نوع من تأكيد الالتزام بالاصطفاف ضمن محور المقاومة بقيادة إيران، يدفع أيضاً إلى تساؤلات عن التأثيرات التي قد يفضي إليها اختيار السنوار على أي فرص محتملة لتحسين العلاقات مع أي دول عربية، أو مساهمتها في تحسين ظروف غزة أثناء أو بعد الحرب.
أخيراً، يبدو أن اقتضاب الشرح الذي قدمته الحركة حول هذا الاختيار وآلياته ومداه ينطوي على الكثير، فالرجل اختير بشكل مغاير لما هو في لوائح الحركة في الأوضاع الطبيعية، كما أن تداخل المناصب لم يشرح حتى الآن، فهل هذا منصب مؤقت لحين إجراء انتخابات؟ أم أنه منصب سيستمر لفترته الطبيعية لمدة أربع سنوات؟ هل قررت حماس أن السنوار سيكون رئيساً للحركة خلال فترة الحرب والاضطراب؟ أم أن السنوار سيكون رئيسها لفترة مكتملة؟ تفاصيل كثيرة فد تساهم في فهم أبعاد القرار ومعانيه وتصورات الحركة عن إدارتها لنفسها، وفهم حالة تياراتها، لكنها ما زالت تفاصيل مبهمة حتى الآن ولا يمكن تقييم هذا القرار سياسياً بصورة عالية دون اكتمال هذه الصورة.

مدار الساعة ـ نشر في 2024/08/07 الساعة 09:16