بطّاح يكتب: لغز 'ترامب'

د. أحمد بطّاح
مدار الساعة ـ نشر في 2024/06/13 الساعة 15:01
يكاد المتابع لمسيرة ترامب السياسية يُصاب بالدهشة وعدم التصديق وهو يرى أنه في طريقه إلى الترشح للرئاسة مرةً أخرى (نجح أول مرة في عام 2016 وحكم لمدة أربع سنوات)، ومَنْ يدري فقد يفوز بالانتخابات القادمة في 05/11/2024 ويصبح رئيساً مرةً أخرى، وقد تعاظمت دهشة المتابعين لمسيرة ترامب بعد حكم الإدانة بتهمة جنائية الذي تلقاه الأسبوع الماضي من محكمة في نيويورك، ورغم أن هذا الحكم قابل للاستئناف فإنه قد يُقّر في المرحلة النهائية، وعندها يواجه ترامب أحكاماً قد تتراوح بين الإقامة الجبرية أو السجن!والواقع أنّ هذه القضية التي أُدين بها مبدئياً (وهي إدخال بعض البيانات المالية الخاصة بدفع أموال لممثلة إباحية في بيانات حملته الانتخابية لضمان سكوتها!) قد تكون أقل شأناً من الناحية الجنائية والسياسية من قضايا أخرى كتشجيعه أنصاره على اقتحام الكونغرس، وطلبه من أنصاره تأمين أصوات إضافية له في ولاية جورجيا لضمان انتصاره في الانتخابات الأخيرة، وإذنْ فقد تتم إدانة ترامب قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة وعندئذ سوف يكون على الأمريكيين تقرير فيما إذا كانوا سيصوتون لمرشح مُدان أو حتى يمضي عقوبة في السجن!إنّ هذا كله يطرح سؤالاً كبيراً وهو: لماذا يحظى ترامب بكل هذه الشعبية التي تمكّنه من اكتساح جميع المرشحين الآخرين للحزب الجمهوري والتأهل للانتخابات الرئاسية برغم كل احتمالات إدانته في المحاكم؟إنّ هنالك عدة عوامل تقف وراء "لغز ترامب" ولعلّ أهمها:أولاً: أنّ ترامب يمثل شريحة كبيرة من الأمريكيين البيض المحافظين المنتمين في غالبيتهم إلى الطبقة الوسطى (White- Middle Class) الذين يعتقدون بتفوقهم (Supremacy)، ولديهم قناعات راسخة ضد المهاجرين، وضد الإجهاض وغيرها من القضايا الخلافية (Debatable) التي تظهر بين حين وآخر وتكشف مدى تَمتْرس هذه الشريحة وراء قناعاتها المحافظة.ثانياً: أن كثيرين من الأمريكيين يعتقدون أنّ ترامب ضحية بالفعل لأعدائه لأنه جاء من خارج المؤسسة السياسية الأمريكية التقليدية (Outsider, and not from the establishment) وحيث أن هذه "الدولة العميقة" إذا جاز التعبير ترفض من يأتيها من خارجها فإنّ موقفها من ترامب أمر طبيعي ومفهوم.ثالثاً: أن ترامب يُحارَب بلا هوادة من الحزب الآخر المنافس لحزبه الجمهوري وهو الحزب الديمقراطي، ومعروف أن الحزب الديموقراطي حزب أكثر ليبراليةً من الحزب الجمهوري، وهو يُعنى بالأقليات، ويتسامح مع المهاجرين، ويقف مع حق المرأة في الإجهاض (Abortion)، ولذا فليس غريباً أن يكون هذا الحزب كارهاً لترامب وكل ما يُمثّله.رابعاً: أنّ الأداء الاقتصادي لترامب أثناء رئاسته كان جيداً، وحيث أن الأمريكي يهتم أولاً وأساساً بالاقتصاد الذي ينعكس على حالته المعيشية فإنه لا غرابة في أن نجد كثيرين من الأمريكيين يفضلون عودته على عودة "بايدن" الذي لم يُوفّق كثيراً في توجهاته الاقتصادية، وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن ترامب رجل ثري يملك الملايين ولذا فإن أمثاله من الطبقة الغنية والراغبة في "تأبيد" ثرائها سوف تبذل الغالي والرخيض في سبيل إعادته إلى سدة الحكم.خامساً: أنّ الفترة التي حكم فيها ترامب (2016 – 2020) لم تشهد أية حروب، ومن الانصاف أن يُسجل له أنه -وبرغم عدوانيته الظاهرة وعدم انضباطه- ليس ميالاً للحروب وهذا أمر غير هيِّن بالنسبة لرئيس "امبراطورية" مثل الولايات المتحدة تملك ربع اقتصاد العالم، ولها أكثر من (800) قاعدة في أرجاء المعمورة. إنّ القوة تغري باستعمالها ولكن ترامب لم يكن ميالاً أثناء رئاسته لاستعمال القوة الأمريكية غير المسبوقة في التاريخ.سادساً: طبيعة النظام القضائي الأمريكي الفريد الذي يجيز لكل مواطن حتى لو تمت إدانته الترشح للانتخابات ولو كانت على أعلى مستوى كالانتخابات الرئاسية. إن معظم دول العالم تتوفّر على تشريعات قاطعة بأن "كل من ارتكب جنحة أو جناية مُخّلة بالشرف" لا يجوز له الترشح للمناصب العامة ولو لسنوات معيّنة، ولكن في الولايات المتحدة ها هو ترامب يتنقل بين محكمة ومحكمة بل ويستخف أحياناً بالقضاء الأمريكي ولكنه واثق منه أنه سوف يكون مرشحاً للرئاسة بل وربما رئيساً!هل فات واضعو الدستور الأمريكي، والآباء المؤسسون (Founding fathers) أن يضعوا تشريعات تحّد من وصول من لديهم سجلات جنائية إلى المناصب العامة وبالذات المنصب الأهم وهو منصب الرئيس؟ سؤال برسم الإجابة!بقي أن نضيف أن ترامب شخص يجيد التواصل (Good Communicator)، ويعرف كيف يستقطب الأنصار ويحفّزهم، ولا شك أنه ماهر فيما يُسمى "بالتحشيد السياسي"، ولعلّ ذلك متاتٍ من أنه صاحب خبرة في مجال الإعلام حيث عمل لسنوات طويلة في "تلفزيون الواقع" وأفاد من تجربته.هل سينجو ترامب من كل المحاكمات التي تترصده؟هل سيخوض الانتخابات الرئاسية وقد أُدين في بعضها فعلاً أو ربما وهو يقضي عقوبته بسبب بعضها؟لا أحد يعرف على وجه اليقين، وإن كان من الواضح تماماً أنه سوف يكون مرشح الحزب الجمهوري، وأنه قد يُدان في بعض التهم الموجهة إليه، بل وقد يُعاقب، ولكن كل هذا لن يمنعه من أن يكون أول رئيس في التاريخ الأمريكي يواجه محاولتين للعزل من قبل الكونغرس، ويواجه كذلك بعض التهم الجنائية وربما بعض العقوبات بسببها، وعليه فهل من المبالغة أن نتحدث عن "لغز ترامب"؟!
مدار الساعة ـ نشر في 2024/06/13 الساعة 15:01