ما بعد 'رئيسي'.. ماذا يحدث في إيران الآن؟

مدار الساعة ـ نشر في 2024/05/21 الساعة 08:49

مدار الساعة - كانت ليلة أمس الأول هي الأطول في تاريخ إيران منذ عقود طويلة، ليلة البحث عن طائرة الرئيس الذى سقطت طائرته في أكثر المناطق وعورة في إيران، وهي إقليم "ورزقان"، الواقع على حدود أذربيجان الشرقية، حيث تصل درجة الحرارة إلى تحت الصفر، بالإضافة إلى هطول أمطار تصل إلى حد السيول، فضلاً عن أنها من المناطق الجبلية المتداخلة، ما جعل من مهمة البحث عن "إبراهيم رئيسي" أمراً شبه مستحيل.

هناك سقط الرئيس وبصحبته وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان.
النظام الإيراني الآن في حالة تخبط قد تكون الأولى من نوعها، فالأمر برمته مربك على مستوى التحليل أو اتخاذ القرار، فغياب الرجل الثاني في الدولة، بعد المرشد أو الولي الفقيه "على خامنئي"، في مرحلة تاريخية معقدة وخطيرة كالتي يعيشها الإقليم الآن، سيدخل النظام في نفق من الفوضى السياسية قد تتسبب في العديد من الإشكاليات السياسية والاجتماعية، خاصة أن "إبراهيم رئيسي" لم يكن بالرجل العادي، فهو من صقور النظام الإيراني، والمرشحين بقوة لنيل منصب مرشد الثورة الإيرانية، بعد وفاة على خامنئي المرشد الحالي، وله تاريخ طويل من إثبات الولاء لنظام الولي الفقيه، خاصة في مرحلة الثمانينيات حينما كان عضواً في "لجنة الموت"، التي عمدت إلى التخلص من كل التيارات المعارضة للثورة الإيرانية في ذلك التوقيت، حيث وصل عدد الإعدامات آنذاك إلى ما يقارب الـ30 ألفاً.
آية الله إبراهيم رئيسي تولي الرئاسة عام 2021، بعد "حسن روحاني" الممثل للتيار المعتدل أو شبه الإصلاحي، فتم التوافق على رئيسي من قبل التيار الأصولي الأكثر راديكالية ومحافظة على مبادئ الثورة الإيرانية، وكذلك الأصول المذهبية الشيعية المتشددة، فحمل الرجل على عاتقه أن يُسلم المجتمع بأكمله للتيار المتشدد، في مقابل قمع كل التيارات المعتدلة أو المعارضة في الداخل الإيراني.
وبالفعل نجح في ذلك، وسطع نجمه داخلياً، خاصة بين شباب الحوزة الدينية الذين يشكلون جماعة ضغط سياسي واجتماعي على النظام في الداخل، بل على المجتمع بأكمله. فتحول إبراهيم رئيسي من منفذ لأجندات النظام، إلى شخصية متفردة، له مناصروه وأتباعه، بل شكل ما يشبه التيار المنفصل نسبياً داخل أروقة النظام.
حضور إبراهيم رئيسي القوي داخل أروقة السياسة الإيرانية شكل تهديداً واضحاً لبقية صقور النظام، على رأسهم "مجتبى خامنئي" ابن مرشد الثورة الإيرانية "علي خامنئي"، الذي يملك هو الآخر كل الإمكانات ليحل محل والده خلال الفترة المقبلة، فصحة المرشد الإيراني الحالي لا تنذر بخير في القريب، ما استتبع ظهور العديد من المنافسين على منصب الإرشاد بين رجالات النظام الأقوياء.
ورغم ما يبدو علىه التيار الأصولي من وحدة، فإنهم ليسوا على قلب رجل واحد فيما يتعلق بقيادة إيران الفعلىة تحت منصب الولي الفقيه، فهناك تيار يرى أحقية "مجتبى خامنئي" بوراثة منصب أبيه، وهناك من يطرح نفسه بشكل مباشر كبديل لخامنئي، بخلاف التيار الذي يسعي للسيطرة على مفاصل المجتمع من الداخل بغض النظر عمن سيخلف خامنئي. وغياب رئيسي عن الساحة سيجعلها في حالة ميوعة سياسية معقدة، فرغم ميوله الأصولية، لكنه يحاول أن يصنع توازناً بين أطراف الصراع داخل بيت الولي الفقيه، واضعين في الاعتبار ما حققه رئيسي من شعبية بعد خوضه الصراع بشكل مباشر مع إسرائيل، خاصة في أوساط المحافظين من الشباب، أو داخل بعض التيارات في الشارع الإيراني، تلك الشعبية قد تمثل خطراً على العديدين ممن شكلوا هيكلية النظام.
فرغم أن الدستور الإيراني يحدد خطوات غياب الرئيس بالعزل أو بالوفاة، فحسب المادة ١٣١ من الدستور، فإن النائب الأول هو من سيقوم بمهام الرئيس حال وفاته أو عزله، وسيتم تشكيل مجلس مكون من رئيس مجلس الشوري "البرلمان"، ورئيس السلطة القضائية، والنائب الأول "وهو في حالة رئيسي، محمد مخبر تسخيري"، ودوره هو اتخاذ إجراءات لانتخاب رئيس جديد في غضون ٥٠ يوماً. ورغم أن تلك الإجراءات قد بدأت بالفعل بمجرد وصول أخبار سقوط طائرة الرئيس- فإن العثور على شخص لديه القدرات التوافقية التي لدي رئيسي يعتبر أمراً مستحيلاً، ما قد يزيد حدة الصراع بين أطياف الحياة السياسية في إيران، للفوز بمنصب الرئيس.
النظام الإيراني لا يفوت فرصة، حتي وإن كانت مأساة بحجم حادثة رئيسي، إلا ويقدم الجانب الديني كفكرة أصيلة، فقد دعا النظام إلى صلاة التوسل "الشيعية" لنجاة الرئيس، بل امتدت الدعوة إلى كل الميليشيات الشيعية في الجوار العربي، مثل الحوثيين وحزب الله والحشد الشعبي، فأُقيمت الصلاة والدعاء في معظم الحسينيات والأضرحة الشيعية في إيران، واجتمع طلاب الحوزة وقوات الباسيج "التعبئة" في صلاة مذهبية، للتوسل بالأئمة الشيعة لنجاة رئيسي.
استغلال الجانب الديني كان استعراضياً من الأساس، فقد حاول النظام أن يستعرض تماسكاً وهمياً للمجتمع من الداخل، وإرسال رسالة واضحة لكل تيارات المعارضة في الداخل أن الدولة تملك أدواتها العقابية حال حدوث أي تسيب اجتماعي، أو مظاهرات مفترضة، خاصة أن هيبة النظام وقوته أصبحتا على المحك.
فقد ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي العديد من الانتقادات حول قدرة النظام على تأمين شخص بحجم رئيس الجمهورية، أو على الأقل كفاءة الأجهزة الأمنية وأجهزة الدولة بشكل عام على الحفاظ على رجاله، في مقابل ظهور فرحة عارمة لزوال رئيسي، من بعض تيارات المعارضة الداخلية، خاصة بين الشباب ذوي الأفكار المنفتحة نسبياً، والرافضين سلطة الحكم الديني، وانسحبت تلك الرؤية على الأقليات العرقية كالأكراد في إيران، أو عرقية البلوش، الذي أسهم رئيسي في قمعهم خلال الفترة السابقة تحديداً بعد أزمة العملية الإرهابية في كرمان، التي تم إلقاء الاتهام فيها على جماعة "جيش العدل".
مؤامرة أم الطقس القاتل؟
يرى أصحاب نظرية المؤامرة أن ما حدث لإبراهيم رئيسي وحسين أمير عبداللهيان لا يخرج عن كونه مؤامرة تعمدت اغتيال الرئيس، ولهذه النظرة لها منطقها الخاص:
أولاً: الاتهام المباشر لإسرائيل، خاصة في حال الصراع السياسي بين الدولتين، الذي وصل إلى صدام عسكري، فقد تكون إسرائيل قد أسهمت بشكل أو بآخر في اغتيال رئيسي، كعمل انتقامي ضد النظام الإيراني، وصنع حالة من البلبلة السياسية في الداخل الإيراني.
ثانياً: الصراعات السياسية والتاريخية بين دولة أذربيجان الغربية والدولة الإيرانية، فقد أسهمت إيران تاريخياً في الصراعات العسكرية بين أذربيجان وأرمينيا، حينما ناصر النظام الإيراني أرمينيا ضد أذربيجان، فالأمر من وجهة النظر هذه ينفي فكرة المصادفة بأن تتم إسقاط طائرة الرئيس أثناء وجوده على الحدود الأذربيجانية، خاصة أن علاقة أذربيجان بإسرائيل علاقة ذات أصول براجماتية قوية.
ثالثاً: الموكب الرئاسي يتكون من ثلاث طائرات مروحية، فلماذا تصل طائرتان وتسقط طائرة الرئيس؟!، خاصة مع توارد أنباء غير رسمية عن أن قائد طائرة الرئيس قد أغلق جهاز الاتصال اللاسكي قبل سقوط الطائرة بوقت كبير، وبالتالي انقطع الاتصال عن جهات متابعة الطائرة.
لكن في الأغلب لن يتبنى النظام الإيراني نظرية المؤامرة، أو أن العملية مرتبطة بحادث إرهابي، حتى لا يكشف عن اختراقه أو ضعفه؛ فسيتم الاعتماد على الرواية الإعلامية التي أدانت طبيعة الطقس في ذلك التوقيت من العام في إيران، وامتداد السيول لعدة مدن داخل إيران، وطبيعة المنطقة التي سقطت فيها الطائرة.
وبعيداً عن نظرية المؤامرة، فإن غياب رئيسي سيؤدي إلى خلل كبير في المنظومة السياسية في الداخل، بل سينعكس خارجياً بشكل كبير، خاصة في ظل منطقة مشتعلة، ومحاولات النظام الإيراني أن يستعرض نفوذه العسكري والسياسي على المستوي الإقليمي وتحقيق أكبر المكاسب الممكنة في ملف المفاوضات النووية.
كل تلك الملفات سوف تتوقف وقد تتغير إدارة الملفات الخارجية تبعاً لإعادة ترتيب الملفات في الداخل، فإيران على وشك مرحلة من عدم الاتزان وبعثرة أوراق اللعب.

مدار الساعة ـ نشر في 2024/05/21 الساعة 08:49