الكويت الحبيبة
مدار الساعة ـ نشر في 2024/05/13 الساعة 02:31
.... حين كان تموز يستبد برمل الكويت, يرحل أخي منصور العجمي لعمان.. وكنت أفرد قلبي كمستقر له, والكف كان وسادته ... د. عيسى الأنصاري كان يفعل الشيء ذاته.. ونطوف في مقاهي عمان وشوارعها...وأنا حين كان برد الشتاء في عمان يعصف بعظامي, لم أكن أجد غير منصور العجمي ..كي ينتظرني في مطار الكويت, وكي أرحل معه فورا للبر ..ونجلس نساهر النار والليل, ويأتي أبناء عمومته (العجمان) ..اصحاب الأنوف الشم, والعيون التي تشبه أسنة الحراب ..ياما ذكرني أهل منصور بمطلع قصيدة لتيسير السبول: ( بدويا خطت الصحراء لا جدوى خطاه)...أتابع ما يحدث في الكويت, وأود في هذا السياق أن أقول كلمة في إطار الحب والخوف على كل ذرة رمل فيها وهي: إن أسوأ شيء في الديمقراطيات المتجذرة هو أن تمارس فئة أو عصبة وعيها على النظام السياسي, وتقفز عن الدستور والعرف وأبجديات السياسة, هذا لايعني أن الوعي هو مسألة حصرية بيد النظام ..أبدا, بل ما أقصده أن الوعي يجب أن يوظف في إطار النقد و الإصلاح ..في إطار مصلحة الناس, ولايعني أبدا تجريد النظام من صلاحياته أو حقوقه الدستورية أو أبويته في المجتمع والدولة.النظام السياسي في الكويت ومنذ تأسيس الدولة, لم يتورط بالسحل ..لم يقم بتصفية معارض, لم يسفح قطرة دم واحدة ...بل هو النظام الوحيد الذي أنتج هوية للمجتمع وخصوصية في الحالة العربية والخليجية ...إقرأوا مرحلة الشيخ جابر الصباح جيدا ..هو الحاكم العربي الذي أنتج وعيا سياسيا وثقافيا متقدا وخطيرا في العالم العربي ..ألم يجتمع اليسار العربي كله على شواطئ الكويت في عهده, ألم تقفز الدراما والفنون في الكويت لكي تتصدر المشهد وتنافس مصر وتتفوق عليها ...لولا المساحات التي أنتجها الشيخ جابر –رحمه الله– لما كان عبدالحسين عبدالرضا يقدم ملحمة مسرحية, هي ( باي باي لندن) وتعتبر أول نقد اجتماعي وسياسي للواقع الخليجي ..ولما كانت مجلة العربي, مصدر تنوير وإشعاع ..كل من يكتب فيها مقالا يعمّد كمثقف عربي ...ألم يحتضن المعارضة والشعر والقضية الفلسطينية, ألم تتصدر الصحف الكويتية المشهد العربي ..وتنافس لبنان وتتفوق عليه في الصحافة ..القبس وحدها كانت تستطيع بخبر بسيط أن تجعل العالم العربي كله يسهر في انتظار اليوم التالي.الشيخ صباح – رحمه الله – أكمل المشهد خارجيا حين تجاوز خصومات اجتياح الكويت واحتلاله من قبل العراق, وحين أسس منهج التسامح ..واحتضن العالم العربي كله بين كفيه ...لقد أعاد في الهوية الكويتية أنفاسها القومية, استطاع أيضا أن يصقل هذه الهوية في إطار انتاج خصوصية في الموقف السياسي الكويتي ..كان الشيخ صباح –رحمه الله– يؤسس لسياسة المتبوع وليس سياسة التابع ..فقد صنع من مواقفه وحدة أخلاقية في قياس المبادئ والعروبة ...وعلى البعض أن يمشي خلفه لا أن يكون أمامه.في النظام السياسي الكويتي يتغير الأشخاص, لكن النهج واحد ..وأعتقد أنه من الأنظمة التي تستحق الدراسة, من الأنظمة التي حافظت على الخصوصيات الإجتماعية حافظت على البداوة وطبقة مجتمع التجار ..في ذات الوقت أنتجت ليبرالية حقيقية في العقل الكويتي, وديمقراطية متجذرة في المجتمع ..والشيخ صباح –رحمه الله- لم يتفرد في العالم العربي ويأخذ كل هذا الإحترام استنادا على الثروة النفطية, بل أخذه استنادا على خبرته السياسية الطويلة ..ومعرفته المتجذرة في العالم العربي, وحكمته ...ناهيك عن بداوته التي كانت مرسومة على محياه وحاضرة في القلب.لست مستفيدا من الكويت, فأنا لا أراسل محطة تلفاز هناك ..ولا أراسل صحيفة يومية ..ولا أكتب في إطار إعادة إنتاج زمن الدفع مطلع الثمانينات, وصحافة المهجر المبتزة ..ولكن لي أهل وإخوة على طرف الخليج, وأحب رمل ذاك الوطن ..فكل ذرة فيه تحفظ ما كتب بدر شاكر السياب في مساءات الكويت ..البحر يحفظ أيضا للكويتي الذي استبيح وطنه وشرد ..كيف أنه في فترة بسيطة استطاع أن يعيد بناء دولته ..ويلوي المستحيل ويبني أبراجا من الصبر أعلى من أبراج الإسمنت ...والشمس هنالك صدقوني أنها لا تلفح وجوه البدو أبدا ...فقد رأيتها تغازل الشماغ والعيون, وترسم من سمرتهم إطارا للوحة العروبة ..وتسكب مع المغيب لونها على هذه اللوحة ...وفلسطين حاضرة فيهم.. في كف الطفل وقلب الأم وعقل الجيل الجديد..الكويت وطن لم ينهض بالنفط ولا بالمال.. من بناه هو البحر والتاريخ والزنود الصابرة ..ومن أرسى فيه هذا البناء, صبر أهله على النائبات ..وكرمهم المتصاعد ومن حق شعبه أن يفتخر بنفسه ..ومن حق نظامه السياسي أن يقدم نفسه كنموذج مهم في العالم العربي يقتدى به...حمى الله الكويت شعبا وأميرا وتاريخا وجباها تركع لله وحده ..وترتفع فقط لعناق الشمس...
مدار الساعة ـ نشر في 2024/05/13 الساعة 02:31