حياة سعيدة
انتقلت (سعيدة) مع زوجها وبناتها الأربعة من (الكويت) إلى (دمشق) لتسكن بقرب أهلها في مخيم فلسطين، وذلك عقب غزو العراق للكويت في 2/8/1990م. (سعيدة) من أصل فلسطيني، تحمل الجنسية الأردنية، التي مُنحت لها بسبب زواجها من أردني، وهي من الذين عاشوا في دمشق بعد هجرتهم من (يافا) 1948م. هجرات متتالية، وكأن الاستقرار قد اختفى من قاموسها، ولم تبق له أية دلالة يشير إليها.
كانت (سعيدة) وزوجها (سعيد) يملكان محلات لبيع الألبسة في (الكويت)، وكانا يصنفان من الأثرياء، فـ (الكويت) تُعدّ لهما ولكثيرين أرض الأحلام، حيث مجانية التعليم والصحة، وفرص العمل الكثيرة، والأمن والأمان، واحترام الإنسان، لقد كانت فردوسًا ووطنا للجميع. ولكن بعد انتقالهما إلى دمشق دون مال انضما إلى قافلة الفقراء الذين يستحقون الزكاة.
بحث (سعيد) عن أي عمل يستره وأسرته، ولكن الأبواب كانت شبه مغلقة أمامه، فهو لا يلبث أن يعمل حتى يشعر بوجع كرامته، ويتذكر أيامه الخوالي، وماذا كان وكيف صار، فيترك العمل لينتقل إلى عمل آخر. إنها صدمة لم يستطع المسكين أن يتحملها، الانتقال من الغنى إلى الفقر بين عشية وضحاها.
وبعد مدة على هذه الحال البائسة يصاب (سعيد) بفشل كلوي يقعده في منزله، ويضطره للذهاب إلى المستشفى لغسيل الكلى، ترافقه زوجته (سعيدة) وكانا يقضيان الوقت الطويل والشاق في كل مرة يذهبان فيها للغسيل. وبعد سنوات من معاناة الفقر وألم المرض، ينتقل (سعيد) إلى رحمة الله، بعد أن رسم الزمان بكلّ ألوانه التعب والهرم في وجه (سعيدة) التي لا تملك في الدنيا سوى بناتها، حيث أبحروا وحدهم في أمواج الحياة العاتية التي لا ترحم بعد أن فقدوا ربان سفينتهم، وواجهوا المصائب التي تأتي دفعة واحدة ولا تعرف التقسيط.
انتقلت (سعيدة) إلى الأردن، بعد الأزمة السورية، كي تمكّن البنات من الدراسة الجامعية أو العمل، إنها الهجرة من جديد، وكأنها ظلٌّ يسير معها ويأبى أن يفارقها، تنقلت بين البيوت والمناطق، ولم تذق للاستقرار طعما.
وفي طريقها لزيارة إحدى قريباتها، تتعرض لتحرش من قبل سائق سيارة الأجرة، فعاد إلى ذاكرتها زوجها المريض، وكيف كان وجوده على الرغم من مرضه يحميها، أما الآن فهي فريسة يحاول فريق ممن يراها أن يصطادها ويحصل عليها بلا شفقة أو رحمة. وتكرر (سعيدة) دائما: ماذا يعني كوني أرملة أو مطلقة، هل أكون مرتعا للجميع؟ هل يعني أنني فقدت كرامتي وشرفي؟ إنّ العالم مليء بالذئاب البشرية المسعورة.
تعبت (سعيدة) على بناتها حتى تخرجن من الجامعات، لقد أفنت حياتها من أجلهم، فلم تتزوج على الرغم من ترمّلها في سنّ صغير، وظلت صابرة محتسبة، تركها الأهل والأقارب لفقرها، بعد أن كانوا لا يفارقونها في غناها، ومع ذلك لم تزدد إلا صلابة وبأسا، إنها العزيمة والإصرار، إنها إرادة الحياة والبقاء حيث يريد الإنسان أن يعيش. نعم كانت لهذه المعاناة ثمن من صحة (سعيدة) فالسكري والضغط والدهون الثلاثية من جملة الأصحاب الأوفياء الذين لا يغادرونها.
تعلّمتُ من سعيدة أن الحياة كفاح مستمر، لا مكان ليائس فيها أو كسول. وأن الدنيا مهما أحكمت الخناق على الإنسان فلا بدّ أن تتركه يتنفس، وأن تفتح له ذراعيها وتعانقه، فلا عسرٌ يبقى، ولا يسرٌ يدوم، فالحياة بينهما. وأن النجاح لا يأتي وليد صدفة، بل نحن من يصنع الفرص ويضيّعها، هذه هي الدنيا، وأن في الحياة أبطالا يستحقون الأوسمة والنياشين على نبلهم وشجاعتهم، ولكنهم في الظلِّ لا يُعرفهم أحد.
الدستور