الحنيطي يكتب: إغلاق الجزيرة عار
مدار الساعة ـ نشر في 2024/05/08 الساعة 13:06
لم أستغرب أبداً قرار سلطات الاحتلال الاسرائيلي اغلاق مكاتب قناة الجزيرة في إسرائيل، بل كنت أتابعه أولاً باول منذ صياغته في حكومة نتنياهو، وحتى إقراره سريعاً بالقراءات الثلاث تحت اسم "قانون الجزيرة " قبل ان تخرج الكنيست إلى عطلتها الصيفية .
القرار بحد ذاته وصمة عار جديدة تضاف لحكومات إسرائيل التي تدعي الديمقراطية وضمان حرية التعبير ، والذي يثبت بالوجه القاطع ان اسرائيل ما هي إلا كيان لا يختلف كثيراً عن دول العالم الثالث وتتستر بالديمقراطية وهي في الحقيقة عبارة عن " نظام ديكتاتوري ناعم " يستخدم الديمقراطية لخنق حرية ٩ مليون شخص ، فقط لان الائتلاف الحاكم اليوم باغلبية ٦٤ عضواً من اصل ١٢٠ عضو يشكلون الكنيست ( البرلمان) هم نتيجة تصويت نحو مليون و٤٠٠ الف ناخب فقط من ناخبي الليكود والأحزاب اليمينية المتطرفة والدينية، وهذا الإئتلاف قادر اليوم على تمرير اي قانون يريده ،وبأسرع ما أمكن على عكس قرارات وقوانين كانت تعلق في الكنيست لسنوات ،وتمر عليها عدة حكومات لتمريرها ،وهنا تكمن الخطورة في حكومة نتنياهو السادسة هذه .
تقييد حرية الإعلام والتعبير وتقليم أظافر وسائل الإعلام لا يقتصر على قناة الجزيرة وقبلها الميادين او اي وسيلة إعلام غير اسرائيلية ، بل هي اجراءات تطال ايضاً وسائل الإعلام الاسرائيلية التي تزعج نهج الحكومة ، وقد بدأ فعلياً منذ حكومة نتنياهو الرابعة ، عندما كانت ميري ريغيف ، مغربية الأصل ، وأكثر وزراء الليكود تسحيجاً لنتنياهو ودفاعاً عن عائلته الفاسدة ، تتولى حقيبة الإعلام ، واعلنت بصريح العبارة من على منصة الكنيست حينها ان " لا سيطرة على الحكم دون السيطرة على الاعلام ".
ملفان من ملفات الفساد التي يتورط بها نتنياهو اليوم وملاحق بالسجن بسببها على علاقة مباشرة بوسائل الإعلام ، هما الملف رقم ٢٠٠٠ والعلاقة التنافسية بين ناشر صحيفة " يديعوت احرونوت " ميني موزيس ، وصحيفة " يسرائيل هيوم " والتي كانت تعرف حتى وقت قريب في إسرائيل انها "صحيفة نتنياهو" والتي توزع لليوم بالمجان ، حيث يمولها صديق نتنياهو الراحل شيلدون اديلسون ،وتتولى مجلس ادارتها اليوم أرملته ميريام اديلسون ، وقد صدر في الكنيست قانون خصيصاً سمي " قانون إسرائيل اليوم " في محاولة للحد من تغول وانتشار هذه الصحيفة الجديدة الواسع على حساب الصحف الاخرى الأكثر قدماً وعراقة من الصحف العبرية ، رغم ان عمر الصحيفة لا يتعدى اليوم ١٥ عاماً، في حين يتجاوز عمر صحف عريقة مثل هآرتس ويديعوت احرونوت ١٠٠ و ٨٠ عاماً.
والملف الثاني ، رقم ٤٠٠٠ ويتعلق بالموقع الإخباري الالكتروني " واللاه" وعلاقة القائمين عليه مع امين عام وزارة الاتصالات شلومو فيلير ، المعين من قبل عائلة نتنياهو شاهد الدولة، حيث كانت عائلة نتنياهو ، زوجته سارة وابنائه يتحكمون بالخط التحريري للموقع والمواد الإخبارية التي ينشرها والحرص على تلميع صورة نتنياهو وعائلته.
ورغم بعض التحفظ على قناة الجزيرة ،وما تقدمه من حيث الموضوعية والحيادية والرسالة الإعلامية ،وبالعودة الى قرار إغلاق قناة الجزيرة والذي ياتي بالدرجة الاولى لطمس الحقائق وإخفاء الجرائم التي يرتكبها اليوم جيش الاحتلال الاسرائيلي والمجازر اليومية في غزة بعد احداث السابع من اكتوبر ، بعد تغطية الجزيرة المكثفة للحرب في الوقت الذي منعت فيه إسرائيل وسائل الإعلام الدولية من دخول غزة ، فكانت مواد الجزيرة ادلة دسمة ارتكزت عليها محكمة جرائم الحرب في لاهاي في قراراتها الأخيرة بحق إسرائيل وجرائم الإبادة الجماعية والمجاعة التي ترتكبها في غزة ، بالإضافة الى انه وسيلة ضغط على قطر والدور الذي تلعبه في استضافة قيادة حماس السياسية والوساطة في ترتيب صفقات تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس .
الجزيرة ،منذ نشأتها في مطلع تسعينيات القرن الماضي ، هي اول نموذج اعلامي عربي مهني واحترافي قريبة جداً من نسخ روبرت موردوخ، احد أباطرة الاعلام في العصر الحديث ، وقد ساهمت لدرجة كبيرة في ادخال الاسرائيليين إلى كل بيت عربي عبر شاشتها واستضافتها لكثير من الشخصيات الاسرائيلية، فكانت رائدة " التطبيع الإعلامي" في العالم العربي مع إسرائيل، فنقلت الرأي الاخر تحت شعار " الرأي والرأي الاخر " ،ولا اخفي سرا انني تقدمت للعمل في الجزيرة قبيل انطلاقها، وكان الامتحان الذي خضعت له في السفارة القطرية في عمان من اكثر الاختبارات احترافية ومهنية التي مرت علي في حياتي، ورغم قبول طلب توظيفي من مدخل تخصصي باللغة العبرية ، إلا ان عدم امتلاكي للجنسية الاسرائيلية او الامريكية او الاوروبية هو ما حال دون التحاقي للعمل مع الجزيرة حينها في مكاتبها في فلسطين، وكانت اولوية الشاغر في القناة وعلى ما اعتقد، والغايات تسهيل مهام العمل ،لمن يحمل الجنسية الاسرائيلية والجنسيات الاجنبية الاخرى مثل وليد العمري ، والشهيدة شيرين ابو عاقلة، وجيفارا البديري ،وإلياس كرام، وفاطمة الخمايسي وغيرهم.
وسائل الإعلام الاسرائيلية لم تسلم من بطش حكومة نتنياهو السادسة ،فقد عين نتنياهو الوزير شلومو كرعي لإتمام " المهمة القذرة" في تقييد وسائل الإعلام الاسرائيلية ايضاً، حتى ان هيئة البث الإسرائيلية الرسمية "كان" والممولة من ميزانية الدولة ، يجري اليوم العمل على ادخال تعديلات على نظامها ، حتى لا يبقى صحفييها وإعلامييها مصدر ازعاج لنتنياهو وعائلته ووزرائه المتطرفون وتكشف أسرارهم اولاً باول،
نقمة نتنياهو على هيئة "كان " جاءت بعد ان نشر احد صحافييها اليافعين ويدعى ميخال شيمش ،تسجيلاً صوتياً للوزير سموتريتش ، وزير المالية، ووزير ضم الضفة الغربية ، ينعت فيه نتنياهو بالقول " كذاب ابن كذاب " ، وايضاً بسبب ما تنشره الهيئة اليوم عبر وسائلها المتعددة من تلفزيون وإذاعات متعددة ومنصات تواصل اجتماعي عن آخر تطورات محاكمة نتنياهو وملفات فساده الأربعة قبل ان يضاف اليها ملف الغواصات الالمانية.
وآخر الملفات التي يجري تداولها في محكمة نتنياهو هذه الايام هو ملف الهدايا الشخصية من حلي وسيجار وشمبانيا بقيمة عشرات الاف الشواكل ، بالإضافة إلى نشر الهيئة كثيراً عن تصرفات يائير ابن نتنياهو وتعامله الفض وبوستاته على الفيسبوك ومنصة اكس ، وانتقاداته لكثير من الشخصيات الاسرائيلية المهمة في المجتمع.
واذاعة الجيش الاسرائيلي ايضا ، يجري العمل على صياغة نظام لها يحد من عملها وحرية التعبير فيها ، وستطال التعديلات الاعلامية ايضاً سلطة البث الثانية وقنواتها ال ١٢ و ١٣ العبرية ،والتي تعتبر من وسائل الاعلام التي تنتقد نتنياهو وحكومته كثيراً .
اما القناة المدللة اليوم عند نتنياهو ، فهي القناة ١٤ العبرية ، والتي تدافع عن سياساته وتتصدى للقنوات الاخرى ووسائل الإعلام الاسرائيلية الاخرى عندما تنتقد نتنياهو وأداء حكومته ووزرائه وعائلته ، ويعطيها نتنياهو مقابلات حصرية دون غيرها من القنوات ، فهي فعلياً اليوم تعتبر " قناة نتنياهو" ، وتؤدي المهمة التي كانت تقوم بها قبل سنوات قليلة فقط صحيفة " يسرائيل هيوم - إسرائيل اليوم "، قبل ان تطرأ تغييرات على خطها التحريري ،ويصبح رئيس تحريرها السابق بوعاز بوسموت ، بوق نتنياهو ، عضواً في الكنيست الحالية عن حزب الليكود .
اذن ، قصة حكومات نتنياهو مع الإعلام هي قصة طويلة لا تقتصر فقط على إغلاق مكاتب قناة الجزيرة فقط ، بل هي قصة تجسد حالة جديدة في النظام العالمي الجديد ،وخلقت نموذج حكم جديد " نظام ديمقراطي ديكتاتوري ناعم " اساسه السيطرة على الحكم باغلبية البرلمان "الكنيست" ، وتعزيز ذلك بالسيطرة على وسائل الإعلام ، وقمع الحريات الصحفية ،وكل ذلك يصب في مصلحة حماية الاحتلال والمنظومة الصهيونية، التي تدافع عنها الالة الاعلامية الاسرائيلية اليوم تحت مسمى "معاداة السامية ".
مدار الساعة ـ نشر في 2024/05/08 الساعة 13:06