لغة أطفال غزّة
مدار الساعة ـ نشر في 2024/04/18 الساعة 01:16
أكاد أجزم أن كثيرين من متابعي الحرب الصهيونية على قطاع غزّة يقفون أحياناً مندهشين أمام المستوى اللغوي الذي يتجلّى عند أطفال غزّة وهم يتحدثون لوسائل الإعلام المختلفة أو عندما تجري معهم إحدى القنوات الفضائية مقابلة عابرة أو لدى إجراء استطلاع ما في عقب بعض الأحداث أو الهجمات أو الجرائم الصهيونية.أنا شخصياً مأخوذ جدّاً بلغة أطفال غزّة، إلى درجة أنني في البداية كنت أظن أنّ هنالك دبلجة ما يكون فيها المتحدث شخصاً آخر غير الذي يقف أمام الكاميرا، لكنني عندما أمعنت النظر أيقنت أن المتحدثين هم أطفال غزّة أنفسهم، وفي بعض الأحيان ظننت أن وسائل الإعلام تجري المقابلات بصورة انتقائية وأنها تختار فقط الأطفال الفصحاء والمميزين، لكن تبيّن لي أن المقابلات عشوائية وأن صفة الفصاحة وسلامة القول هي صفة عامّة عند غالبيّة أطفال غزّة. ومع أنّ من المعروف أن للعمر علاقة بمستوى التحصيل اللغوي لكن في غزّة تجد هذه الفصاحة اللغوية عند الأطفال من أعمار ثلاث سنوات فما فوق، وأنها فصاحة تثير الدهشة وتجعلك تشعر وأنت تستمع إليهم أنك أمام رجالٍ ناضجين ونساء ناضجات يختارون المفردات والجمل المناسبة للتعبير عن المواقف المختلفة ويعبرون بدقة عن المواقف والوقائع والأحداث والأشياء.لقد لاحظت، ولعلّ كثيرين لاحظوا كذلك، أن بعض الأطفال يضبطون كلماتهم التي يتحدثون بها بالرفع والنصب والجرّ والسكون، وأن بعضهم يردّدون عبارات لا نكاد نسمعها إلاّ على ألسنة الكبار، ولا سيّما العبارات التي تدخل في باب الدعاء والرجاء والأمل والثقة باللغة وغيرها. ويلاحظ أن لغتهم عالية التهذيب لا تقع فيها كلمات كالشتم واللعن والإساءة وغيرها على الرغم من فقدهم آباءهم وأمّهاتهم وإخوانهم وأخواتهم وأصدقاءهم وكتبهم وألعابهم وكلّ شيءلهم، وعلى الرغم من الإصابات التي تظهر في وجوههم وأجسادهم وبتر أيديهم أو أرجلهم، وعلى الرغم من جوعهم وخيبات أملهم وهم يبحثون عن الطعام ولا يجدونه. كما يلاحظ أن لغتهم لا تخلو من التعبير المجازي إلى جانب التعبير المباشر.إن عباراتهم- على صغر سنّهم- من مستوى "حسبنا الله ونعم الوكيل" و"ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم" و"لا بدّ أن ننتصر" و"لن نترك أرضنا" و"لن نرحل من هنا" و"سوف نعود إلى بيوتنا" و"رحم الله الشهداء" و "اشتقت لأبي وأمّي" و"لا يوجد شيء نأكله" و"إن شاء الله خير" و"نحن نصنع الأمل" وقول أحدهم "أنا لم أعش طفولتي" وغير ذلك من العبارات الناضجة، هي عبارات لا يقولونها بأفواههم فقط ولم يُدَرَّبوا على قولها لكي يظهروا بها أمام شاشات التلفزيون، بل يقولونها بكلّ تلقائية وثقةٍ وحماسة واندفاع، تخرج من قلوبهم وعقولهم ومرارة تجربتهم ومعاناتهم.إنّ أجمل ما في لغتهم هذه- ذكوراً وإناثاً- أنّها لغة تخلو من التردد والتأتأة والوجل، وتخلو من أيّ انكسار على الرغم من جوعهم ويتمهم وتشرّدهم. ومن أجمل ما في هذه اللغة أيضاً أنها تنبئ عن الأمل والإرادة والصبر والتصميم والاعتداد بالنفس.وإلى جانب ما فيها من مفردات وعبارات تبدو أعلى من المستوى العمري والعقلي لهؤلاء الأطفال فإننا نجدهم يعزّزونها بما يعرف بلغة الجسد وتحريك اليدين والعينين والجسد ورفع شارة النصر، وتجنّب أيّ حركة تدلّ على انكسار أو ضعف، حتّى إنّهم لا يمانعون في إطلاق ابتسامتهم على وجوههم لكنها تبقى ابتسامة مقيّدة ومدروسة، حتى الدمعة تبقى في عيونهم- ولا يأذنون لها بالنزول- فتختلط الابتسامة بالدمعة المحتبسة في العيون.إنّ لهذه الظاهرة عند أطفال غزّة عدّة أسباب أهمّها السياسة التعليمية في قطاع غزة، وهي سياسة تولي اللغة العربية عناية خاصّة ولا ترى في اللغة مجرّد كلمات وجمل ونصوص ونحو وصرف وإملاء وإنّما هي بالإضافة إلى ذلك مستودعٌ للقيم والمفاهيم والمعارف والمبادئ ومقوّمات النهضة والتقدم والنجاح والعيش بكرامة وكبرياء وأنفة.ومن أسباب هذه الظاهرة أيضاً ما تعانيه غزّة وأهلها من قسوة الحياة وصعوبة الظروف التي تحيط بها من جرّاء الحصار والعدوان الصهيوني الغاشم ممّا يدعو سكّان غزّة للتكيّف مع هذه الظروف ومواجهة التحدّيات بكلّ الوسائل المتاحة مما ينعكس على مفاهيم المجتمع وقيمه وثقافته ولغته وتطلّعاته وتشكيل مناعته، ويجعل من لغة أطفال غزّة التي تشرّبوها عبر التعليم وعبر المعاناة لغة فصيحة أبيّة واثقة، تبعث الأمل في النفوس وتعزّز الثقة وتقوّي العزم والهمّة والإيمان بالنصر والمستقبل المشرق.salahjarrar@hotmail.com
مدار الساعة ـ نشر في 2024/04/18 الساعة 01:16