متسول الحب

عبدالهادي راجي المجالي
مدار الساعة ـ نشر في 2024/02/13 الساعة 07:59
استوقفني أمس فيديو, لمجموعة من الأشقاء الخليجين يقومون بتعويض شاب عن خسارة منتخبنا, عبر الدفع له.. بعد أن شكى من قيامه ببيع سيارته وكل ما يملك من أجل أن يأتي للمباراة.
لقد ولدت على حواف المال, أمضيت العمر بين الطفر والطفر...ولكني أعترف أني مارست التسول, مارسته عند رموش ليلى..الحب وحده مسموح لك فيه أن تتسول رضى الرموش, مارست التسول عند تراب قبر أمي..حينما ذرفت الدمع عليها وقد رحلت مبكرا من العمر...وتذللت لخالقي طمعا في الرحمة, ورجوت أهلي أن أدفن بجانبها علها تشفع لي...من خطايا الحرف وخطايا العمر المجنون الذي عشته.أنا تسولت أيضا عند تراب الكرك الأغر, تسولت أن يعيدني إليه في مشيبي..ويمنحني الدفء في تشرين, ويحنو على خطاي المتعبة...والكرك تتسول عند ترابها الذي يحمل زيد وعبدالله وجعفر...كنت أسأل نفسي هل هذا تراب أم تبر؟..هو التبر الذي سار عليه الأولياء, والذي احتضن سلطان باشا الأطرش..واحتضن الشهداء والضحايا, احتضن الثوار الذين جاءوا من فلسطين..واحتضن كل مجد في هذه الدنيا وكل الكبرياء..واحتضن السيف والقصيدة والأنفس الشم.أنا تسولت أيضا..تسولت حب وطني لي, أظنه يحبني..وأظن أني ولدت أردنيا سيدا حرا, وريث المعركة والدم الخضيب والعشيرة..والشهادة, أجمل ما في الدنيا أن تكون أردنيا..أن تولد وتعطيك الشمس الكرامة بدلا من الضوء...وتسقيك أمك من طهر حليبها كل الرضا في هذه الدنيا وتسقيك مع الرضى البطولة والسيوف..أجمل ما في الدنيا أن تكون أردنيا, وتقرأ تاريخك..وتتذكر أن أهلك هم من بنوا أول مؤسسات طبية في العالم العربي, وتتذكر كيف كان العرب يحجون إليها كي يتعلموا من زنود ذاك البدوي في الخدمات الطبية معنى الرعاية ومعنى الرحمة..وتتذكر أيضا أن أهلك هم من بنوا أول مؤسسات تعليمية حج إليها العرب, كي يعرفوا معنى انعطافة حرف النون, وكي يتعلموا الهندسة والعلوم والشريعة..وتتذكر أنك صدرت للعالم العربي خيرة العقول, تتذكر أنك أول من أرسى لهم مداميك الجيوش والمدارس, وعلمهم كيف يسقى النخل..وكيف تسقى الأرض من دمع العيون, وكيف تبنى الجيوش على الإنضباط والطاعة والحب والفداء.طز في كرة القدم, إن كانت تحمل لغة التسول..في كل العالم هي تحمل لغة الوطنية والوفاء والقتال, ومعنى رفع العلم...وليتذكر من يتداول هذا الفيديو..أننا ورثة مملكة الأنباط, أننا ورثة مؤاب وعمون وميشيع المؤابي..ليتذكر كل من يروج هذا الفيديو, أننا الدولة الوحيدة في العالم التي قدمت (3) رؤوساء وزارات كشهداء لأجل وطنهم وقضيتهم, وقدمت فوق كل ذلك الملك عبدالله الأول شهيد الأقصى والوفاء لفلسطين..نحن من خسرنا أجمل فتيتنا وصفي الذي ارتفع شهيدا في القاهرة, خسرنا هزاع الذي تناثرت أشلاء جسده في مدى عمان الرحب, وعطر بشهادته الزمن والتاريخ والكتب..نحن الذين قدمنا ابراهيم هاشم – رئيس حكومة الوحدة في العراق – شهيدا لأجل دجلة, ولأجل أن يبقى العرب أعلى السواري, وأعلى نسب..في أقل من عشرين عاما يستشهد منا (3) رؤوساء وزارات وملك..ونصمد فوق الصمود, ونصبر فوق الصبر.لقد أوجعني هذا الفيديو أكثر من وجع خسارة المباراة, وأجزم أنهم استغلوا طيبة الفتى وعفويته....سأنهي بما قاله عبدالرزاق عبدالواحد في وصف أهله: (قد يأكلون لفرط الجوع أنفسهم...لكنهم من قدور الغير ما أكلوا)..ما زال في هذا الوطن, من يأكلون من قدورهم ويلتحفون صبرهم..مازال في هذا الوطن أرتال من الكبرياء وجبال من الصبر...وشجر ينبت على الأنفة وعزة النفس.
مدار الساعة ـ نشر في 2024/02/13 الساعة 07:59