الحبُّ حاضنة الإبداع
عرض عليَّ (كمال) قصائده في الحبِّ والغزل العذري بعد مدة من صداقتنا، فدهشتُ من رقّة قصائده وعذوبتها، لكنْ ما شكّل لي الصدمة أني لأول مرة أعرف أنه شاعر موهوب، لم أدّخر السؤال في نفسي، فسألته معرّيا فضولي الذي لم أستطع ستره من هول الدهشة: ما سرُّ الموهبة التي تفجرت فيك كالبركان؟ فأجاب: أنا غارق بالحبّ. فأسترسلتُ أشفي فضولي: وهل كنتَ تكتبُ الشعرَ قبل ذلك؟ فقال: محاولات بسيطة فقط. فما قصة حبك يا صديقي التي جعلتكَ شاعرًا مرهفا؟ قال: أحببت زميلة لي في الجامعة، وتقدمت لخطبتها فور استلامي لوظيفتي، لكنّ والدها رفض بحجة أنه لا يريد أن يزوجها من شخص من غير قبيلتهم، لاختلاف العادات والتقاليد. فسألتُ مستغربًا: وهل بقي اختلافٌ بين الناس في عاداتهم وتقالديهم تمنعُ الزواجَ بينهم؟ قال: هذه وجهة نظر والدها المتعلم المثقف، ولم أدّخر جهدًا إلا بذلته، لكن والدها رفض بشدة. فلم يبقَ لي إلا المعاناة التي أعبّر عنها بكلماتٍ تسيلُ من قلبي كالدّمع يسيلُ من العينين.
إنّهما الحبُّ والمعاناة، تصنعان الشاعر المرهف، ليُخرجَ الشعرَ العاطفي الجميل، وهذه التجربة الإنسانية في مكابدة الحبّ ليست الأولى من نوعها، بل لها عبر التاريخ القديم والحديث نظائر لا يمكن حصرها، ومن ذلك قديما:
قصة جميل بن عبد الله بن مَعْمَر القضاعي (ت:82هـ) الذي أحبّ بثينة بنت حيّان بن ثعلبة، وطلب يدها من أبيها فرده وزوّجها من آخر، فازداد هيامًا بها، وممّا جادت به قريحته في حبه لها:
لَقَد ذَرَفَت عَيني وَطالَ سُفوحُها وَأَصبَحَ مِن نَفسي سَقيماً صَحيحُها
أَلا لَيتَنا نَحيا جَميعاً وَإِن نَمُت يُجاوِرُ في المَوتى ضَريحي ضَريحُها
فَما أَنا في طولِ الحَياةِ بِراغِبٍ إِذا قيلَ قَد سوّي عَلَيها صَفيحُها
أَظَلُّ نَهاري مُستَهاماً وَيَلتَقي
مَعَ اللَيلِ روحي في المَنامِ وَروحُها
فَهَل لِيَ في كِتمانِ حُبِّيَ راحَةٌ
وَهَل تَنفَعَنّي بَوحَةٌ لَو أَبوحُها
ومثلها قصة كثيِّر بن عبد الرحمن الخزاعي (ت: 105هـ) الذي عشق عَزّة بنت جميل الكنانية، التي تزوجت غيره ورحلت إلى مصر فتبعها، ومن عجيب ما قاله:
ومِسَّا تًراباً كانَ قدْ مسَّ جِلدها
وبِيْتا وظلَّا حيثُ باتَتْ وظلَّتِ
ولاتيأسا أن يمْحُوَ الله عنكُما
ذُنوباً إذا صلَّيتما حيثُ صلّتِ
ولم يقتصر هذا الإبداع الصادر عن حرقة الحب ولهيبه على الزمن القديم، فقد وجدنا في العصر الحديث نماذج مشابهة له، منها: قصة الحب الذي استمرّ أكثر من نصف قرن، ومن طرف واحد، ونتج عنه أكثر من مائة وثلاثين قصيدة، لم يأخذ الشاعر عنها فلسًا واحدًا. بطل هذه القصة (شاعر الشباب) أحمد رامي (ت:1981م) الذي أحبَّ المطربة (أم كلثوم) التي غنت قصائده المكتوبة لها، وممّا يدلّ على حبه العذريّ قوله: «إنني أحبّ أمّ كلثوم كما أحبّ الهرم، لم ألمسه، ولم أصعد إليه، لكني أشعر بعظمته وشموخه، وكذلك هي»، وفسر عدم زواجه منها بقوله: «لو تزوجتها سيكون الزواج سببًا في اعتزالها الغناء؛ لأنني رجل شرقي، ولن أسمح لها بالغناء»
ربما لا يستطيع الإنسان أن يدفع الحبَّ عن قلبه، لكنه يستطيع أن يعبّر عنه بصورة جميلة، ويقدر أن يظلّ صاحب منهج نظيف يسعى للحلال ولا يعرف للحرام طريقا، فإن تعذّر الحلال عليه، نفّسَ عن أشواقه بكلمات تصف ما في قلبه من لهيب الحب وناره.
وهكذا نرى الحبّ يدفع الإنسان للإبداع، ولا نرى الكره يصنع مثل ذلك، فبحب الله أبْدَعَ الأولياء، وبحب نبيه أبدعَ الأصفياء، وبحب البشر أبدع الشعراء.
الدستور