أجمل لهجة

عبدالهادي راجي المجالي
مدار الساعة ـ نشر في 2024/01/22 الساعة 06:03

من كثرة جلوسي على التلفاز, تعلمت اللهجة الغزاوية... ما أجمل تلك اللهجة على ألسنة الأطفال ورجال المقاومة...

يوجد لدينا في عمان (البرتش كاونسل) وهو معهد معتمد لتدريس اللغة الإنجليزية ومنح الطلبة شهادة, تؤهلهم للدراسة في بريطانيا... يوجد لدينا أيضا ما يسمى شهادة (التوفل).. وهي أيضا مهمة, تؤهل من يحملها للدراسة في جامعات أميركا... أنا لا تهمني بريطانيا ولا أميركا يهمني أن أقوم بفتح معهد لتعليم (الغزاوية الفصيحة).. أحس أن أهل غزة حين يتحدثون بها كأن الحروف ترقص على ألسنتهم.. تلك المرة الأولى التي أعرف أن مخارج الحروف في غزة من القلب وليس من الحنجرة..
قبل فترة قال أحد الإطفال على قناة الجزير: (إمي عيانة كتيير... ما فشه دوا, واحنا بنام ع الكصف وبنفيق ع الكصف)... هذه الجملة تطربك, لقد أسس (الغزي) بلهجته طربا جديدا يضاف إلى السلم الموسيقي العربي والعالمي.. أسس مقام الحرب, وفي الشجاعية قرروا أن يؤسسوا مقاما جديدا وإيقاعا مرتفعا أسموه إيقاع المقاومة, (الغزي) أيضا أثبت أن الياسين (105) أهم من البيانو... حين تسمع مقطوعة (لشوبان) على البيانو, ربما تشعر بالراحة... بالمقابل مقطوعات الياسين (105) لا تجعلك تشعر بالراحة, بل تجعلك تشعر بالنصر.. بأن للعرب يداً تثأر وس?احا يضرب.. وسؤالي هنا من هو الذي انتشر أكثر في العالم, (شوبان) أم قذائف (الياسين)؟.. حتما الياسين.
هل سمعتم الرجل الذي كان يوجه المقاتلين والذي صرخ: (حلل يا دويري) قبل أن يطلق جملته هذه ماذا قال؟ قال: (الله أكبر في كلبهم يا ولاد.. حلل يا دويري). لاحظوا كلمة في (كلبهم) كان يقصد في (قلوبهم)... لكنه سحر اللهجة الغزية الفلسطينية, التي تخرج أحيانا أجمل من القذيفة, انفجار جملة: (حلل يادويري) تطايرت شظاياها في كل العالم العربي.. هي لم تكن صرخة باتجاه الباشا فايز الدويري... بقدر ما كانت مقطوعة موسيقية عظيمة, تجاوزت بروعتها كل ما أنتجه (تشايكوفسكي).. أصلا ماذا أنتج هذا الرجل؟ أنتج بحيرة البجع, كسارة البندق... ال?قاومة لم تقم بتكسير البندق بل قامت بتكسير الرؤوس, وأنتجت بحيرات من الدم لجنود الإحتلال.. لو كان (تشايكوفسكي) حيا واستمع لصوت صاروخ عياش وهو ينطلق لأنتج مقطوعة أسماها مقطوعة (الحماس) وربما اجتاحت العالم وأصبحت أعظم موسيقى ينتجها العقل البشري.
أريد أن افتتح معهدا لتعليم اللهجة (الغزاوية), صرت أتقنها.. وتدخل في سلوكي ومنامي وفنجان قهوة والسيجارة, حتى أنني حين أقف في المساء أمام منزلي لتدخين سيجارة..صرت أراقب حركة السيارات, وكأنني أبحث عن دبابة, وكأن السيجارة في يدي (عبوة شواظ)... صرت أعود بالذاكرة لمشهد المقاوم وهو يقول لصاحبه: (اتركها اتركها هاي جرافة..في دبابة جاية).. حتى حين أكون في السيارة واخر واحد يعبر الإشارة الخضراء, صرت أتخيل نفسي في زقاق من أحياء غزة... وأتخيل الإشارة دبابة (ميركافا) وأنطلق... وأحيانا أصرخ: ألله أكبر... وما رميت إذ رميت?ولكن الله رمى..
غزة دخلت في سلوكي, في دمي, في الأحلام... صدقوني حتى الأحلام اقتحمتها غزة.. هي داء لا تشفى منه, وهي بذات الوقت الدواء... أنا مصاب بمتلازمة الياسين (105) ولا أريد الشفاء أبدا.

مدار الساعة ـ نشر في 2024/01/22 الساعة 06:03