الحرية والكرامة المالية في الاسلام

مدار الساعة ـ نشر في 2024/01/12 الساعة 11:42

مدار الساعة - المال من أهم الأشياء التي تشغل الإنسان في هذه الحياة، وهناك من يسعى لجمعه بكل الطرق والوسائل، ظنًا منه أنه سيحقق له السعادة التي ينشدها، وخلال سعيه هذا يصبح عبدا للمال، وتضيع منه السعادة التي يبحث عنها، وربما تسبب في ظلم الآخرين.

والمسلم مطالب بالسعي من أجل الوصول للحرية للمالية والتي تعني أن يكون للإنسان مصادر دخل مالية ثابتة وموثوقة وتدر عليه من المال فوق كفايته بحيث لا يكون مضطرا إلى العمل المباشر المستمر، والحرية المالية تتحقق للمسلم بالإيمان بالله عز وجل وأنه هو الخالق الرازق، وتتحقق بالعمل والادخار والاستثمار.
نظرة الإسلام للمال
المال وسيلة يحقق بها الإنسان حاجاته وحاجات من حوله، وليس غاية في حد ذاته حتى يشغل الإنسان نفسه بجمع المال ولا يؤدي حقوق الله عز وجل الذي وهبه إياه، والمال يجب أن يظل في يد الإنسان وألا يصل حبه لقلب صاحبه، فيتحول إلى نقمة ووبال عليه وعلى من حوله.
والإسلام ينظر للمال على أنه قوام الحياة، ولذلك شرع وحدد طرق كسبه وإنفاقه بما يحقق السعادة لصاحبه ولمن حوله، والإسلام حث على العمل، وذم السؤال، ورتب على التصدق بالمال أجورا عظيمة.
والإسلام يحث المسلم على أن يعيش كريما وأن يكون حرا ماليا، فدعاه إلى العمل والكسب والسعي في الأرض، وأمره بالإنفاق في وجوه الخير المختلفة، والله عز وجل وعد بأن يخلف على المنفقين في سبيله، يقول الله عز وجل {​​​​قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سورة سبأ: 39]
والإنسان مستخلف في المال وليس مالكا له على وجه الحقيقة، يقول الله عز وجل : {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}[ سورة الحديد: 7]
والمال من الأشياء التي سيسأل عنها الإنسان يوم القيامة مرتين، فعن أبي برزة الأسلمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزولُ قدَما عبدٍ يوم القيامةِ حتَّى يُسأل عن أربع: عن عُمرِهِ فيمَ أفناهُ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ، وفيمَ أنفقَهُ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ».
حالات المال في الإسلام
وللمال في الإسلام 4 حالات:
الكسب الحلال والإنفاق الحلال وهو ما يرضاه الله عز وجل للعبد.
الكسب الحلال والإنفاق المحرم وهذا سيحاسب عليه الإنسان.
الكسب المحرم والإنفاق في الحلال وهذه لا يقبله الله عز وجل لأنه لا يقبل إلا الطيب.
هي الكسب الحرام والإنفاق المحرم وهي أخبث الحالات.
مظاهر الكرامة المالية في الإسلام
يقول الله عز وجل {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[سورة الإسراء: 70]
السؤال في الإسلام
والإسلام ذم السؤال، ودعا إلى التعفف، وحث على العمل، فعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ المسألةَ لا تصلَحُ إلا لثلاثةٍ لذي فقرٍ مُدْقِعٍ أو لذي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أو لذي دَمٍ مُوجِعٍ».
الكرامة المالية للفقراء
والإسلام ضمن الكرامة المالية للفقراء بأن جعل لهم حقوقا في أموال الأغنياء، يقول الله عز وجل {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [سورة المعارج: 24-25]
الكرامة المالية للمرأة
والإسلام ضمن الكرامة المالية للمرأة بأن جعل نفقتها على الرجل سواء كانت أما أو أختا أو زوجة أو بنتا، ولم يلجئها للخروج من البيت للعمل ومخالطة الرجال إلا لضرورة، يقول الله عز وجل {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}[سورة النساء: 34]
الحرية المالية لغير المسلمين
والإسلام ضمن الحرية والكرامة المالية لغير المسلمين، فيروى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، "مرَّ بباب قوم وعليه سائل يسأل، وكان شيخا ضرير البصر فضرب عمر عضده، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله وأعطاه مما وجده، ثم أرسل به إلى خازن بيت المال وقال له: انظر هذا وضرباءه فضع عنهم الجزية، فو الله ما أنصفناه، أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم".
والصحابة رضي الله عنهم كان فيهم أغنياء مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه والذي أنفق ماله كله في الإسلام، وعثمان بن عفان رضي الله عنه الذي اشترى بماله بئر رومة وجهز من ماله جيش العسرة، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الذي أنفق ماله على فقراء المسلمين وعلى أمهات المؤمنين، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الذي أنفق جل ماله على الفقراء والمساكين.
مظاهر الحرية المالية في السيرة النبوية
وفي السيرة النبوية نجد مظاهر الحرية والكرامة المالية عند الصحابة رضي الله عنهم، فـ"عن حكي بن حزام رضي الله عنه قال: سألتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم قال لي: "يا حكيم، إنّ هذا المال خِضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفسٍ بُورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خيرٌ من اليد السفلى". قال حكيم: فقلت: يا رسول اللهِ، والذي بعثك بالحقّ، لا أرزأ أحدا بعدك شيئا، حتى أفارق الدنيا. فكان أبو بكر يدعو حكيما ليُعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إنَّ عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبلَه، فقال يا معشر المسلمين، إني أعرض عليه حقّه الذي قسم اللهُ له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذهُ. فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى توفّي رحمه الله".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم عبد الرحمن بن عوف المدينَة، فآخى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بينه وبين سعد بن الرّبيع الأنصاري فعرض عليه أن يُناصفه أهلَه وماله، فقال عبد الرحمن بارك اللَّه لك في أهلك ومالك دُلّني علَى السّوق، فربِح شيئا من أَقطٍ وسَمْن، فرآهُ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد أيام وعليه وضَرٌ من صُفْرَةٍ، فقال النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم "مَهيَم يا عبد الرحمن". قال: يا رسولَ اللهِ، تزوجتُ امرأة من الأنصار، قال: “فما سُقْتَ فيها". فقال: وزنَ نَواة من ذهب، فقال النبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم "أولِم ولو بشاة".
معوقات الوصول للحرية المالية
هناك العديد من المعوقات التي تمنع الكثيرين من الوصول للحرية المالية ومنها:
الخوف من الفشل في العمل أو نشاط تجاري معين.
الخوف من سخرية الآخرين.
التكبر والتعالي عن ممارسة بعض الأنشطة التي ينظر لها المجتمع نظرة دونية كالأعمال المهنية.
الكسل والدعة والخمول ورغبة البقاء في منطقة الراحة.
العادات السيئة كالتدخين وشرب الخمور والإسراف والتبذير وغيرها.
القروض البنكية وبخاصة الربوية، يقول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}[ سورة البقرة: 278- 279]
وآثار هذه الحرب نجدها في التفكك الأسري وانحراف الزوج أو الزوجة وفي انحراف الأولاد وعقوقهم، وفي المشكلات الأسرية التي تؤدي في كثير من الأحيان للطلاق، والدراسات تُشير إلى أن حوالي 25% من حالات الطلاق والتفكك الأسري سببها القروض الربوية.
تحميل الشباب المقبلين على الزواج أعباء مالية تدفع الكثيرين منهم للاقتراض من البنوك أو الاستدانة من الآخرين، وبعد الزواج تبدأ المشكلات المالية والتعثر في السداد، وينظر الزوج لزوجته على أنها السبب في هذه المشكلات، وقد أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهمية التيسير في أمور الزواج، وأن البركة والخير في قلة المهر.
التوسع في الإنفاق على مظاهر التفاخر والتقليد الأعمى للآخرين وهو ما نشاهده في الأعراس وما يقوم به البعض من تغيير الجوالات وتغيير السيارات وتغيير الأثاث دون الحاجة لذلك، والاستدانة من أجل السفر، والإسراف في الإنفاق على الكماليات وعلى المظاهر الاجتماعية، ونجد في القرآن الكريم وفي السنة النبوية النهي عن الإسراف، والنهي عن التبذير، يقول الله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[سورة الأعراف: 31]
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا واشربوا وتَصدَّقوا والْبَسوا ما لم يخالِطْه إسراف أو مَخيَلة».
طرق الوصول للحرية المالية
طريق الوصول للحرية والكرامة المالية يبدأ بالاقتصاد في الإنفاق وهو أمر حث عليه الإسلام، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما}[سورة الفرقان: 67]
وعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها "قالت هند امرأة أبي سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم، إنَّ أبا سفيانَ رجل شحيح، وليس يُعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذتُ منه وهو لا يعلم. قال: خُذي ما يَكفيك وولَدَكِ بالمعروف".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "خيرُ نساء ركبن الإبل صالحُ نساء قريش: أحناهُ على ولد في صِغَره، وأرعاه على زوج في ذات يدِه".
طرق عملية للوصول للحرية المالية
وهناك طرق عملية من أجل الوصول للحرية والكرامة المالية ومنها:
تحسين المستوى الوظيفي وذلك من خلال التعليم المستمر، والحصول على شهادات دراسية أعلى، وعلى دورات تدريبية في مجال التخصص.
البحث عن عمل إضافي في الفترة المسائية، وذلك لتغطية بعض النفقات الضرورية للأسرة وسداد الديون.
إنشاء مشروع صغير أو العمل اليدوي داخل البيت، وتحويل الهوايات إلى مصدر دخل.
الحصول على عمل من المنزل عبر الهاتف أو شبكة الإنترنت (الطبخ، التسويق، التصمي، البحث المكتبي، إدخال البيانات).
الادخار وهو الاحتفاظ بجزء من الإيرادات وعدم صرفها أو استهلاكها للاستفادة منها في المستقبل لأي احتياجات أو مشكلات أو ظروف طارئة.
استثمار جزء من المدخرات في الأصول المنتجة للمال كالذهب والبورصة والعقارات والمشروعات التجارية.
تعويد الأطفال على تحمل المسؤولية منذ الصغر، وتدريبهم على حسن التصرف في المال، وتشجيعهم على الادخار.
طرق زيادة الدخل
الله عز وجل هو الخالق الرازق وخزائنه مليئة لا تنفد، وقد وعد عباده المؤمنين بالحياة الطيبة والتوسعة في الرزق إن هم فعلوا ما يقربهم إليه، ومن الأمور التي تزيد في رزق العبد المؤمن:
التقوى، يقول الله عز وجل : {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[سورة الطلاق: 2-3]
الاستغفار، لقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ َيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا}[ سورة نوح: 10-12]
شكر المنعم، يقول الله عز وجل : {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[سورة إبراهيم: 7]
البر وصلة الرحم، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَن سرَّه أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسَأَ له في أثره، فَليصل رحمَه".
الصدقة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملَكان ينزلان، فيقول أحدُهما: اللهم أعطِ مُنفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط مُمسكا تلفا".
المتابعة بين الحج والعمرة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تابعوا بين الحجّ والعمرة فإنَّهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذَّهب والفضة".
التبكير، فعن صخر الغامدي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهمَّ بارِكْ لأمَّتي في بُكورِها".
الوصول للحرية المالية هدف ينبغي على المسلم أن يسعى لتحقيقه من أجل العيش بكرامة وعدم مد يده للآخرين طلبا للمساعدة، ولأنها تمكنه من القيام بدوره في عمارة الحياة ومساعدة الآخرين، والإنفاق في وجوه الخير المختلفة.

مدار الساعة ـ نشر في 2024/01/12 الساعة 11:42