حرب دينية عقائدية في غزة
مدار الساعة ـ نشر في 2023/12/16 الساعة 12:07
أشعلت احدث 7 أكتوبر الحرب على قطاع غزة ، وبعد غياب طويل عن الساحة الدولية ، عادت القضية الفلسطينية لتتصدر رأس سلم الأولويات في العالم ، وأصبحت الشغل الشاغل للسياسيين والعسكرين والمحللين ووسائل الأعلام ، نتيجة وقوع الأف الضحايا وتشريد مئات الألاف من بيوتهم ،ولكن ما يدور في غزة اليوم هو ظاهرياً صراع بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي ، لكنه في الواقع صراع ديني عقائدي أزلي تغذيه الأدبيات الإسلامية واليهودية وبينهما المسيحية
.
ففي الأدبيات اليهودية مثلاً، تبقى قصة شمشون الجبار اليهودي حاضرة بقوة في الذهنية الاسرائيلية ، والتي اعتبرت غزة "ملعونة" ومن هنا كانت غزة أول مكان تخلص منه الإسرائيليون في صيغة " غزة وأريحا أولا " في اتفاق القاهرة عام 1994 وكان لاحقاً لاتفاقات أوسلو ، وبعد 30 عاماً ندموا على ذلك ويسعون اليوم لإعادة احتلالها، ومن وزرائهم من دعا مؤخراً الى قصفها بالقنابل النووية
.
شمشون (او سامسون في الأدبيات المسيحية) هو شخصية تاريخية ودينية تظهر قصته في التوراة والإنجيل، بالأخص في سفر القضاة في العهد القديم. وتروي حياة رجل يهودي ولد بوغيرهما، رقة قوية أعطيت له من الله. وقد استُعملت هذه القوة لتحقيق أهداف دينية ووطنية.
وبحسب الأدبيات اليهودية فان قصة شمشون الجبار تبدأ عندما يُخبر ملاك الرب والده من ميلدة، وهي امرأة عقيمة، بأنها ستلد ابنًا يدعى شمشون، ويجب أن لا يتم حلق شعر رأسه. يميز شمشون بقوة خارقة تتجلى في قدرته على هزيمة أعداء اليهود باستخدام لهيب الله.
واحدة من قصص شمشون الشهيرة هي قصة علاقته مع دليلة، وهي امرأة فلسطينية، وكيف قام بقتل أسد وكما ذكر في الكتاب المقدس، "بيديه عبّر الأسد" (سفر القضاة 14:6). قاد شمشون عدة هجمات ضد الفلسطينيين واستخدم قدرته الخارقة في مواجهة أعدائه.
تنتهي حياة شمشون بحادثة مشهورة في غزة، حيث أُفترض أنه أُسر على يد الفلسطينيين الذين عذبوه ،وتم حلق شعر رأسه، مما أدى إلى فقدانه لقوته. وفي النهاية، عندما نقله الفلسطينيون إلى هيكل داغون في غزة ليحتفوا بنصرهم ، استدعى شمشون الله ليرد له قوته الخارقة الأخيرة. ثم أخذ يدعو الله ليمنحه القوة ليهزم أعداء شعبه. شمشون دفع بأعمدة الهيكل ليسقط على رؤوس الفلسطينيين وعلى نفسه، وهكذا قتل شمشون مع أعدائه، وقتل من الفلسطينيين أعدائه مرة واحدة أكثر من كل الذين قتلهم طيلة حياته، ومن هنا جاء المثل القائل "علي وعلى أعدائي " ،وورد هذا المثل في الادبيات اليهودية بالنص العبري " تموت نفشي عيم فلشتييم תָּמוֹת נַפְשִׁי עִם-פְּלִשְׁתִּים– وترجمتها من العبرية حرفياً ، تموت نفسي مع الفلسطينيين" ، حيث تعرض الأدبيات اليهودية الفلسطينيين انهم قوم أصحاب سطوة ونفوذ ، كانوا يستعبدون اليهود ويقمعونهم ويعذبونهم
.
قصة أخرى من الأدبيات اليهودية تزامنت مع حلول ما يسمى بعيد الأنوار " حانوكا "، والحرب المشتعلة في غزة وقوات الاحتلال قد اجتاحت القطاع براً بسطوة ست فرق عسكرية مع دباباتها وألياتها ، وهي قصة اليهود "المكّابيين والحشمونائيم"، وتعود إلى الفترة التاريخية المعروفة باسم "الانتفاضة المكّابية" في القرن الثاني قبل الميلاد، في إطار الصراع بين اليهود والإمبراطورية السلوقية اليونانية، وتحديدًا في عهد الحاكم اليوناني أنتيوخوس الرابع.
ففي العام 175 قبل الميلاد، تولى أنتيوخوس الرابع الحكم، وقرر فرض طقوس يونانية على الشعب اليهودي، بما في ذلك فرض الوثنية وتدنيس الهيكل اليهودي في القدس. قاد ماتثياس الكاهن وأبناؤه الخمسة المعروفين باسم (المكّابيين) تمردًا ضد هذا الظلم والاضطهاد.
أحد أبناء ماتثياس، يهوذا المكابي، تولى القيادة بعد وفاة والده، وأصبح مركزًا للمقاومة اليهودية. نجح المكّابيين في تحرير واستعادة الهيكل الثاني في القدس من الهجوم اليوناني، وقاموا بتطهيره وتنقيته. وفي العام 164 قبل الميلاد، تم إعادة تدشين الهيكل، وكانت تلك الفترة هي الأصل لاحتفال عيد الأنوار (حانوكا) ، ومن هنا جاءت مسيرة انصار بن غفير وسموتريتش الأخيرة ضد الأوقاف الإسلامية في القدس لاستعادة السيادة على "جبل الهيكل – الأقصى".
عيد الحانوكا يستمر لثمانية أيام، ويرمز كل يوم منها إلى إحياء ذكرى عجائب حدثت خلال هذه الفترة. العجيبة الرئيسية هي أن زجاجة واحدة فقط من الزيت، كان يفترض أن يكفي لإضاءة المصباح الذي يشتعل في الهيكل لمدة يوم واحد، استمرت لثمانية أيام. ويعتبر هذا الحدث رمزًا للنصر والنور على الظلام.
لذا، يحتفل اليهود في عيد (حانوكا) بإشعال شمعدان يوميًا على مدى ثمانية أيام، مع تناول الطعام والاحتفالات العائلية، وذلك لتذكيرهم بالنصر على الظلم والمحافظة على الإيمان والهويّة اليهودية، ومن قصة المكّابيين هذه وعيد الحانوكا ، تاتي كلمات النصر وانتصار النور على الظلام التي يتحدث بها نتنياهو وقادة جيشه و"كابينت الحرب" في خطاباتهم اليومية عن الحرب على غزة .
وعمل الاسرائيليون على زرع " عقيدة النصر المكّابية " هذه في نفوس الشبيبة منذ الصغر من خلال قصص بطولات المكّابيين في المناهج المدرسية، ومن خلال الرياضية، فمن اسماء النوادي الرياضية وفرق كرة القدم عندهم هناك فريق مكّابي تل ابيب، ومكّابي حيفا وغيرهما، ومنذ العام 1939 اي قبل اغتصاب فلسطين وهم ينظمون لليوم ما يعرف بمسابقة " المكّابية" وهي دورة العاب رياضية اولمبية تعقد كل اربع سنوات يشارك فيها الرياضيون اليهود من الشتات ، وهي متاحة لمشاركة غير اليهود ايضاً، وتنظم اليوم في ايلات.
أما في الأدبيات الإسلامية والتاريخ الإسلامي ، فقد شهدت منطقة غزة وعسقلان العديد من الأحداث المهمة. يتمثل أحد هذه الأحداث في فتح المسلمين لها خلال الغزوات والفتوحات الإسلامية، وكانت تختلف حسب الفترات التاريخية والأحداث السياسية والعسكرية المحيطة التي مرت بها المنطقة ، ففي العام 638 م وخلال فترة الخلفاء الراشدين قاد عمرو بن العاص الجيش الإسلامي الى فتح الشام وكانت غزة وعسقلان جزءاً من هذه الفتوحات ، وفي معركة حطين عام 1187 م ،وبعد فتح القدس، دخل الجيش الصليبي إلى المنطقة وحاول استعادة الأرض.
في معركة حطين، نجح صلاح الدين في هزيمة الصليبيين، مما أسهم في استعادة السيطرة على غزة وعسقلان.
وخلال فترة الدولة العثمانية، والفتح العثماني عام 1517 فتح السلطان سليمان القانوني المنطقة، وكانت غزة وعسقلان من ضمنها ، ثم جاءت نكبة فلسطين في العام 1948 والتي ما زال العالم يشهد تبعاتها وتداعياتها لليوم.
ولما كانت غزة جزءاً من عسقلان ،يكثر في الأدبيات الإسلامية هذه الأيام ذكر حديث رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم عن عسقلان : (أَوَّلُ هَذَا الْأَمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً ، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً ، ثُمَّ يَكُونُ إِمَارَةً وَرَحْمَةً ، ثُمَّ يَتَكادَمُونَ عَلَيْهِ تَكادُمَ الْحُمُرِ فَعَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ ، وَإِنَّ أَفْضَلَ جهادِكُمُ الرِّبَاطُ ، وَإِنَّ أَفْضَلَ رباطِكُمْ عَسْقَلَانُ ".
أخيراً لا أخراً ، وبين الأدبيات الإسلامية واليهودية وما يجري في قطاع غزة اليوم من قتل ودمار ، وبين ما يحدث في القدس والضفة الغربية من تسليح للمستوطنين وعربدة وتدنيس للمساجد والكنائس، ودفع المتطرفين بن غفير وسموتريتش نحو تقريب "الحرب الأخيرة" ، " حرب يأجوج ومأجوج"، ومع استمرار العدوان على غزة، تجري يومياً عملية تعبئة للمشاعر الإيمانية والعقائدية للجيل القادم، ولا احد يعرف كيف ومتى ستكون النهاية .
مدار الساعة ـ نشر في 2023/12/16 الساعة 12:07