لن أفقد الأمل!
المكان كورنيش الميدان في دمشق، الزمان الساعة السادسة مساءً، 14 تموز 2011، الحدث اعتقال ميّ سكاف الممثلة السورية المشهورة مع عدد من الفنانين والمثقفين الذين خرجوا للتظاهر يطالبون بالتغيير السياسي في سورية.
كنتُ أمس أستعيد هذه المسيرة المشهورة التي شاركت فيها ميّ، على موقع اليوتيوب، قبل أن تصبح مطاردة من أجهزة الأمن والقضاء، وموجودة على قوائم المنع ومهددة بالقتل، ثم تصل الأردن عبر التهريب، وتمكث هنا لنعرفها ونتعارف عن قرب على هذه الشخصية الرائعة والإنسانة النبيلة العظيمة، ثم لتغادر بعد ذلك إلى فرنسا.
صديقتي ميّ؛ حاولتُ تجاهل الأخبار والأنباء التي تحدثت عن رحيلك عن الحياة، تجنّبتها، متعمّداً، كأنني لم أسمعها أو أقرأها، لا أريد أن أعترف بهذه الحقيقة، يا أيقونة الثورة وصورتها الجميلة، لكن حجم الحزن والغضب والتعاطف معك على مواقع التواصل الاجتماعي، هو الذي أجبرني أول من أمس على أن أعترف بأنّنا فقدناك وخسرناك!
آخر منشورات ميّ على مواقع التواصل الاجتماعي كانت قبل يوم واحد من رحيلها وكتبت "لن أفقد الأمل.."، وهي رسالة مهمة تعكس شخصية ميّ وقيمها وثقافتها، فهي إلى لحظة الوفاة كانت تتمسّك بحق السوريين بالحرية والديمقراطية والحياة الكريمة، باختيار حكوماتهم وبرلماناتهم وبأن يحكموا بالقوانين والتشريعات العادلة لا بالعصابات التي ترتدي ملابس الأمن!
سواء كنتَ مع هذا الطرف أو ذاك في الأزمة السورية، فلا تملك أن تدين ميّ السكاف أو تشكك في وطنيتها وإنسانيتها وقيمها، فكان بإمكانها تأييد النظام وشتم المتظاهرين، والتغني بالأمن في مواجهة مطالب الحرية والديمقراطية، كما فعل زملاؤها من الفنانين، أو على الأقل الصمت أو حتى التواري عن المشهد، أو التكسب من مواقفها المعارضة من هذه الدولة أو تلك..
ميّ لم تفعل أيّاً من ذلك! فكانت شجاعة منذ البداية صادقة مع نفسها، شاركت في المظاهرات والمسيرات السلمية التي تطالب الحرية والعدالة والديمقراطية، وعندما أصبحت تحت طائلة تهديدات القتل أو السجن الأسوأ من القتل أصرّ أصدقاؤها عليها بالرحيل، جاءت إلى الأردن وكانت تبحث عن عمل، بعد أن كانت نجمة معروفة، ولأنّها لم تمتلك وثائق السفر، لم تستطع المشاركة في أعمال فنية عربية في دول أخرى، وكانت تقبل بأدوار محدودة لا تتناسب مع قيمتها ووزنها، من أجل تغطية مصروفها في الأردن، وعملت من هنا على مساعدة السوريين فنيّاً وثقافياً في ترجمة قيم الثورة السلمية.
كانت في عمّان تسكن في شقّة متواضعة جداً، بالرغم من أنّ باستطاعتها لو ركبت موجة من الموجات أن تعيش حياة مترفة، وعانت اجتماعياً جراء مواقفها، ونفسياً تعرضت لضغوط شديدة، ومع ذلك كان هاجسنا دوماً – أصدقاؤها- إقناعها بالعدول عن فكرة العودة إلى سورية عن طريق التهريب والمكوث هناك، لأنّها لا تطيق البعد عن دمشق!
رحلت ميّ وقلبها معلّق بدمشق، وإذا كان هنالك ياسمين دمشقي سيزهر من جديد فما قيمته إذ كان الماء الذي يسقى به مغموس بدماء الأبرياء، وبكاء المظلومين والمقهورين والمهجّرين. ما نتمنّاه ونأمله فعلاً هو أن يتحقق حلم ميّ بأن يعود السوريون إلى وطنهم ويعمرّونه، لكن على قاعدة الحرية والكرامة والعدل والحق في تقرير المصير.
وداعاً ميّ سكاف يا شمّاعة القيم الجميلة، وروح الثورة النبيلة، ونموذج الأخلاق العالية السامقة..
الغد