القادم هو الأعظم

نادية ابراهيم القيسي
مدار الساعة ـ نشر في 2023/11/17 الساعة 01:42
منذ أن بدأت الحرب لم تعد تسير بنا الحياة كما عهدنا فما عاد في دواخلنا تلك الرغبات المقتدة لاستقبال الأيام والأحداث بحثاً عن منثور الفرح أو بشائر تحلق فينا في سماء الأمل.
ما عاد الصباح فيروزي الملامح نرتشف فيه فنجان قهوة مرتهنة بمزاجياتنا الذاتية بحثاً عن بدايات جديدة شعارها لعلى وعسى. أصبحنا بعيون ترتحل بقلوب ترتجف خوفاً وتضرعاً نحو غزة العزة ومن خلالها ننظر للعالم أجمع لنرى ما لم نرى من قبل ونسمع ما لا يقره منطق ولا يتقبله عقل فنبصر انقلاب الموازين وتبدل الأحوال ما بين المشرق والمغرب لنشهد واقعاً جديداً فرض نفسه على غير المتوقع اختصرته جملة تقول: ((أرادوا أن يمحو فلسطين من العالم فأصبح العالم كله فلسطين)).
إن الأحداث المتتالية التي يزداد فيها التوحش الصهيوني يوماً عن يوم ضد الشعب الفلسطيني مع الاستفزازات المتواصلة لتوسيع رقعة الحرب مع دول الجوار ما هي إلا دلائل هزيمة قاسية على صعد عدة لم تكن أبداً في حسبان بني صهيون ولن ينجو من تبعاتها كيانهم الغاصب مهما حاول تشويه الوقائع وتغييرها أملاً في نصرة شعبية عالمية تتماشى مع الدعم السياسي والعسكري لائتلافاتهم الدولية.
فعلى مر العقود الزمنية عمل الكيان الصهيونى على خلق صورة الضحية المضطهدة التي عانت ويلات الحروب والمحارق لتصل لبر الأمان بإنشاء دولتهم المزعومة بزيف أكاذيب أرض موعودة أغرقوا فيها تاريخهم المصطنع الذين فشلوا في إثبات مصداقية أي منه أو اثبات أسطورة وجودهم الخيالي. فكانت حرب غزة هي الصحوة العالمية التي جردت بني صهيون من كل ما أدعوا وأوهموا به العالم بأسره على مر السنين. فهاهي أسطورة جيشهم المدجج بأحدث التقنيات العسكرية تتهاوى على أبواب العزة وهاهي شراذمهم التي لملموا شتاتها من شتى أنحاء العالم بحفنة من أحلام وردية واغراءات مادية ومعنوية يفرون رعباً باتجاه مطارات دولية قدموا منها سابقاً ليعودوا من حيث ما أتوا سالكين طرق اللاعودة وتلك قبتهم الحديدية اخترقتها جحافل الصواريخ الباسلة ليلاً مشرقة بنور الأمل رادعة عتمة الطغيان لتنهار معها كل ادعاءاتهم بالتفوق الأمني والأمان الغير مستحق لهم أبداً.
لقد غيرت الحرب الأخيرة أيدولوجية التفكير العالمي نحو الشعب الفلسطيني وحقوقه المغتصبة بانتفاضة الضمير الانساني وبصحوة أخلاقية لم يشهد لها مثيل من قبل ووعي رافض لكل ما ارتكب في حق هذا الشعب وما زال يرتكب من جرائم حرب وإبادة جماعية حصدت الآلاف من الأرواح البريئة وهجرت الأجيال المتتالية. مما بعث قضية فلسطين حيةً ترزق من جديد في وجدان الأطفال قبل الكبار وسطر بأقلام الكرامة حروف مسيرتها بحبر لا يمحى في عقول جيل عربي مسلم وإنساني قادم غير مغيب أو منغمس فيما أعد له من شهوات ظناً من أعداءه أنه سيُلهى بما زينوا فينسى قبلتنا الأولى.
وهذا بحد ذاته انتصار استراتيجي يجب تعزيزه والعمل الدؤوب عليه بتنمية الثقافة الوطنية والسياسية و إعادة تدريس القضية الفلسطينية بأحداثها و تطوراتها و مواقف الأردن المشرفة اتجاهها والتي لم تحد يوما عنها لتكون كلمة الحق في عقول أجيالنا القادمة هي العليا وتدحر ببراهين ثابتة روايات بني صهيون المختلقة والكاذبة باستمرار.
وإن من أبرز ما نتج عن حرب غزة أيضاً هو انتصار الانتماء الوطني القومي وإدراك أننا يجب أن نمتلك القوة الاقتصادية والسياسية المستدامة إلى جانب القوى العسكرية كأحد أهم ركائز التفوق والنضال في مختلف أنواع الحروب ومن هذا المنطلق جاءت المقاطعة الاقتصادية لبضائع الشركات الداعمة لاسرائيل كصفعة غير متوقعة سببت خسائر فادحة ليس بالسهل تعويضها في المستقبل القريب وخاصة بانتشار حملة محلية اقليمية عالمية بعنوان (هل قتلت فلسطيني اليوم) تجمع ما بين الجانبين الانساني والاقتصادي مما سبب ضرر لا يستهان به لداعمي الكيان الصهيونى. بالاضافة لمبادرات دعم المنتوجات الوطنية لتكون نواة وبذرة لانتعاش اقتصادي مستقبلي نوعي يصحب استمرار هذا النهج الاستهلاكي القويم دعماً للاستثمار الداخلي ولتحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي بما هو متاح وخلق بدائل استهلاكية محلية ذات جودة عالية قادرة على المنافسة العالمية وتحقق المصالح الوطنية العليا.
إن هذا الوعي الوطني هو أيضاً نصر استراتيجي فائق الأهمية يجب أن يدعم بمسارات أخرى تعزز مسيرة التنمية المستدامة بدءاً من إعادة النظر في العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية الإقليمية والعالمية مع إسراع الخطى بالمضي قدماً في منظومات الإصلاح السياسي الاقتصادي والمؤسسي التي أطلقت برعاية جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله ورعاه في السنوات الأخيرة.
إن طبول الحرب ستبقى تقرع وإن أُخمدت نيرانها بين فينة وأخرى فهي لن توأد بل ستبقى تستعر تحت ركام الرماد لتخلق جيلًا من فولاذ أقوى وأعظم يحمل راية النصر لحقوقه واسترجاع ما سلب من أجداده وليدفع كلٌ حينها ثمن جرائمه وخياناته.
سيكون القادم أعظم ولذلك يجب أن نعد لهم ما استطعنا من قوة بمختلف أشكالها سياسياً اقتصادياً ومجتمعياً لنستمر كما كنا وسنبقى نحن الأردنيون قيادة وشعباً القمة الأصدق التي لا تخذل أبداً و الهمة والهامة الأعلى بمختلف المقاييس في نصرة فلسطين الأبية دوماً تحت ظل رايتنا التي عنها أبدا لن نحيد الله الوطن المليك تحت الراية الهاشمية. والله دوماً من وراء القصد..
مدار الساعة ـ نشر في 2023/11/17 الساعة 01:42