الحبُّ العابر للأديان
يتصور فريق من الناس أنّ اختلاف الدين أو العرق أو اللغة يشكل سدًّا منيعا أمام المحبين، يحجزهم عن بعضهم، ويَمنع الصِّلاة بينهم. والتاريخ يقول: إن الحبّ ينجح في عبور هذه السدود المنيعة، ويتجاوزها، ليتمّ اللقاء بين المتحابين على الرغم من الاختلافات بينهم.
ومن القصص المعاصرة التي تبرهن على قوة الحبّ وقدرته على تجاوز كثير من العقبات، قصة الكونتيسة الإنجليزية (جين إليزابيث ديغبي) التي تزوجت أربع مرات ، الزواج الأول كان من الملك لودفيج الأول ملك بافاريا، ثم تزوجت برجل السياسة النمساوي فليكس شوارزنبرغ، وبعده اقترنت بجنرال ألباني. وعندما كانت في الخامسة والأربعين زارت سوريا، وتعرفت على الشيخ البدوي الأسمر المسلم الشاب مجول المصرب العنزي، واشتعلت نار الحب بينهما، فتزوجته على الرغم من أنها تكبره سنًّا، وهي من بيئة مختلفة، وعلى دين مختلف. عُرفت السيدة (جين دغبي) في صحراء تدمر بلقب (أم اللبن) و (الموضي) لشدة جمالها وبياضها، وعاشت مع زوجها حياة البادية بكل تفاصيلها، ولم تزر بلدها خلال كل تلك الفترة إلا مرة واحدة، ولم تراسل أحدا من أهلها سوى شقيقها. دام زواجها ثلاثين عامًا، وانتهى بوفاتها بمرض الكوليرا سنة (1881م) حيث دفنت في مقبرة البروتستانت في دمشق، وكتب على قبرها: مدام دغبي المُصرب. لم يكن العمر أو الدين أو اللون أو البيئة حاجزًا يمنع التقاء (جين دغبي) بمجول العنزي، إنه الحب وقوته وقدرته.
والتاريخ عامر بمثل هذه القصص التي يتجاوز فيها الحب كل العقبات أمام المحبين، ومعلوم أن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان قد تزوج بامرأة يهودية، حتى أمره سيدنا عمر بن الخطاب بطلاقها، فكتب إليه حذيفة: لِمَ، أحرام هي؟ فكتب إليه: لا ولكني خفت أن تعاطوا المومسات منهن أي الفاجرات.
ومن الحبّ العابر للأديان زواج أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، الصحابي الجليل، ومؤسس الدولة الأموية، من ميسون بنت بحدل الكلبية المسيحية الأرثوذكسية، التي أنجبت له ولده يزيد الذي تولى الخلافة بعد أبيه. ولكن حبها لبيئتها الصحراء، وديار أهلها كان أكبر من حبها لرغد العيش بجوار زوجها، حتى نسب إليها:
لبيـت تخفـق الأرواح فيـه...أحب إليّ من قصـر منيـف
ولبس عبـاءة وتقـرّ عينـي...أحب اليّ من لبس الشفـوف
وأكل كسيرة فـي كسر بيتـي...أحب إليّ من أكـل الرغيـف
وأصوات الريـاح بكـل فـج...أحب إلىّ من نقـر الدفـوف
وكلب ينبـح الطـراق دونـي...أحب إلـيّ مـن قـط أليـف
وبكر يتبع الأظعـان صعـب...أحب إليّ مـن بغـل زفـوف
وخرق من بني عمي نحيـف...أحبّ إليّ من علـج عليف
خشونة عيشتي في البدو أشهى...إلى نفسي من العيش الظريف
فلما سمع معاوية بتلك الأبيات طلقها، وأعادها إلى أهلها معزز مكرمة.
ومن الحب العابر للأديان زواج عبد العزيز بن موسى بن نصير، من امرأة مسيحية إسبانية من أشراف القوط، وقد أحبّها وكنّاها بأم عاصم، فأشاع المغرضون له أنه تنصّر وترك دينه، فاغتيل وحملت رأسه إلى سليمان بن عبد الملك، وروي عن عبد العزيز أنه كان فاضلا في أخلاقه، صوّاما قوّاما خيِّرا.
وأخيرا، زواج سوزان بريسو الفرنسية، المسيحية الكاثوليكية، من طه حسين المصري المسلم. فقد وجدت نفسها تبهر بعقليته وقدرته على التحليل والنقد، فأبهرها تفرده، وقبل أن ترفض أسرتها زواجها منه بشكل قاطع، جلس عمّ سوزان (القسّ) مع طه بعض الوقت، وعاد يؤكد صحة قرارها، لتتزوجه في 9 /آب/ 1917م. وقضت سوزان أكثر من نصف قرن بصحبة طه حسين، وكانت ضياءً لحياته، حتى رحل عام 1973م.
الدستور