بطَّاح يكتب: إسرائيل والأمن المفقود!

د. أحمد بطّاح
مدار الساعة ـ نشر في 2023/10/25 الساعة 15:18

منذُ أن قامت إسرائيل في عام 1948 لم تشعر بالأمن الراسخ والمستمر الذي تشعر به أية دولة طبيعية، فقد خاضت حروباً متواصلة مع جيرانها العرب بدأتها عندما شاركت مع بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي (1956) على مصر التي مارست حقها في تأميم قناة السويس، ثم في عام 1967 عندما أرادت بالتآمر مع القوى الغربية ضرب القومية العربية ومشاريعها الطموحة، وبعد ذلك في عام 1973 حين عزمت الدول العربية (وبالذات مصر وسوريا)، على تحرير أراضيها التي احتلتها إسرائيل في عام 1967، ثم تلا ذلك غزو لبنان في عام 1982، وحربها مع "حزب الله" في عام 2006، وأخيرا حروبها المُتّصِلة مع حركة حماس في غزة وذلك في الأعوام: 2008، 2012، 2014، 2021، 2022، وصولاً إلى الحرب الحالية (طوفان الأقصى 2023)، وإذا أضفنا إلى هذه السلسلة من الحروب والمواجهات تصديها للانتفاضتين الفلسطينيتين (وهي حروب داخلية صعبة بالنسبة لأية دولة): الأولى في عام 1987، والثانية في عام 2000 لاحظنا ببساطة أنّ إسرائيل لم تشعر بالأمن يوماً فما السر يا تُرى؟

إنّ السر بسيط في الواقع وهو أن إسرائيل قامت بصورة غير شرعية على أنقاض الشعب الفلسطيني (تم تهجير أكثر من 700,000 مواطن، وتدمير أكثر من 400 قرية)، وبرفض إقليمي عربي، ولذا فقد كان من الطبيعي أن ينتفض الشعب الفلسطيني مرة بعد مرة ضد الاحتلال حيث تجلى ذلك في ثورات مستمرة كان أبرزها الثورة الفلسطينية في عام 1936، ثم تلتها الثورة التي قادتها حركة "فتح" في عام 1965، ثم تلتها تلك التي قادتها حركة "حماس" في عام 1987، ناهيك عن كثير من الحركات والأحزاب والتشكيلات الأخرى كالجبهة الشعبية، والجهاد الإسلامي وغيرها.
إنّ مما لا شك فيه أن إسرائيل دولة قوية عسكرياً، وهي مزودة بأحدث الأسلحة الأمريكية، وهي تتمتع باقتصاد مُزدهر، وفوق ذلك كله يتوفر لها دعم غربي (وبالذات أمريكي) ثابت وقوي تجلّى أخيراً حين توافد على زيارتها كل الزعماء الغربيين تقريباً ابتداءً من الرئيس الأمريكي "بايدن" وانتهاء بالرئيس الفرنسي "ماكرون".
ولكن.... وبرغم كل ما سبق من مقومات الأمن ومسبباته فإنّ إسرائيل لا تشعر بالأمن، ولن تشعر به وبخاصة أنها تصر على استمرار احتلال أرض الشعب الفلسطيني الذي يساويها حالياً في عدد السكان (عدد اليهود يساوي عدد السكان العرب الآن في فلسطين التاريخية).
إنّ إسرائيل تؤمن بأنّ القوة والقوة وحدها هي التي يمكن أن تضمن لها الأمن، ولكن دروس التاريخ تؤكد أن للقوة حدوداً، وأنها وحدها لا توفر الأمن، ولعلّ البديل للقوة في الحالة الإسرائيلية هي "الحل السياسي"، وهو يمكن أن يأخذ أكثر من شكل (دولة ديمقراطية واحدة لكل مواطنيها، اتحاد فيدرالي ...) ولكن المطروح الآن وفق الشرعية الدولية هو "حل الدولتين"، أيّ قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران لعام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية إلى جانب دولة إسرائيل.
إنّ إسرائيل في هذا الوقت بصدد القيام بعملية عسكرية كبيرة للقضاء على حركة "حماس" كما تأمل، ولكن الواقع يقول بأنّ إسرائيل قد تستطيع فعل ذلك وقد لا تستطيع لأسباب موضوعية كثيرة لا يتسع المقام لذكرها، ولكنّها بالقطع لن تستطيع القضاء على حلم الشعب الفلسطيني بإقامة دولته على ترابه الوطني شأنه شأن بقية شعوب العالم.
لقد قال "كلاوزفيتز" أبو الاستراتيجية الحديثة "إن الحرب هي استمرار للسياسة ولكن بطريقة أخرى"، وهذا يعني أنّ الحرب - أية حرب - يجب أن تؤدي إلى تحقيق هدف سياسي، وبناءً على هذا المعنى فإنّ حرب إسرائيل الحالية على غزة شأنها شأن حروبها الأخرى ضد الفلسطينيين، وإخوانهم العرب لن تجلب لها الأمن، وسوف تظل تدور في حلقة مفرغة لأنها ببساطة لا تُريد أن تعترف بالسبب الأساسي للصراع وهو حق الشعب الفلسطيني، وبغير الاعتراف بهذا الحق، وانتهاج السبل الكفيلة بتنفيذ تبعاته، أيّ إقامة دولة فلسطينية فلا يمكن لإسرائيل أن تحلم بالأمن. لقد مضى على قيام إسرائيل خمسة وسبعون عاماً ولم تتعلم الدرس حتى الآن، فهل تتعلمه بعد حربها الضروس الحالية ضد غزة؟ من يعش يرَ!

مدار الساعة ـ نشر في 2023/10/25 الساعة 15:18