الدرس الفرنسي-البلجيكي
مقال أفشين مولافي، في الواشنطن بوست (الذي ترجمه الزميل المبدع علاء أبو زينة في الغد أمس) بعنوان "ما يقوله نجاح فرنسا وبلجيكا في كأس العالم عن الهجرة الأوروبية"، يستحق أن يُقرأ مرّات عديدة من قبل النخب السياسية والمثقفين، وأزعم أنّه يصلح لأن يدرس في المدارس لدينا تحت عنوان التمييز بين الوطنية والعنصرية، وأهمية التنوع والتعددية والتسامح والانفتاح في بناء الهويات الوطنية.
المقال يتناول الإنجازات التي حققها الفريقان الفرنسي (الذي فاز بالكأس) والبلجيكي (المركز الثالث) في بطولة كأس العالم الأخيرة، ودور المهاجرين الأفارقة في تحقيق ذلك؛ إذ وصل عددهم في الفريق الفرنسي إلى 17 لاعبا من 23، وتميّز امبابي المولود من أب كاميروني وأم جزائرية، وعمره قرابة 19 عاماً، وكذلك الحال لوكاكو في بلجيكا من أب كونغولي، الذي حقق أهدافاً حاسمة لمنتخبه.
المقال يرصد المفارقة المهمة بين هذا الإبداع والإنجاز للمهاجرين الأفارقة من جهة والصعود الملحوظ لليمين الأوروبي المعادي للهجرة من جهةٍ ثانية، سواء في فرنسا نفسها التي قامت فيها ماريان لوبان بمعركة عنيفة ضد المهاجرين، وفي ألمانيا التي شهدت نقاشات حامية هزّت من موقف المستشارة أنجيلا ماركيل، وفي إيطاليا إذ اجتاحت المشاعر العنصرية الاتحاد الإيطالي لكرة القدم.
هذه الإنجازات الفرنسية والبلجيكية الكروية كان لها انعكاسات مهمة على الحالة السياسية؛ إذ أعطت زخماً وقوة هائلة للاتجاه الذي يؤمن بتعدد الثقافات وبالانفتاح بوصفه عامل قوة لا ضعف أو تهديد أو تحدّ.
ما هو الدرس المستفاد؟
هو -أولاً- أنّ الهويات الوطنية والروح الوطنية لا تعني العنصرية والانغلاق والتشنّج، بل مثل هذه التوجهات المتقوقعة المتكوّرة على نفسها هي عناوين للضعف والقلق والشعور الدائم بالتهديد، وتنعكس من خلال تيارات ونخب سياسية مأزومة فاشلة، وتؤدي في نهاية اليوم إلى الفاشية أو النازية أو إلى الحروب الداخلية، سواء كان ذلك رمزياً أو حقيقياً.
ما نحتاجه اليوم، تحديداً، في العالم العربي، إلى ثقافة مختلفة تماماً في منظور الهويات الوطنية وما دون الوطنية وما فوقها، ونحن نواجه تقهقراً خطيراً في هذه الهويات لصالح الهويات الجهوية والطائفية والأوليّة، سواء على الصعيد الداخلي في كل دولة، أو على الصعيد الإقليمي؛ أي الحرب الطائفية الخطيرة التي تهدد الأمن الإقليمي وتعصف بالأمن الوطني للدول وتخلّق الميليشيات المسلحة والحروب بالوكالة!
الدرس الثاني أنّ المهاجرين ليسوا بالضرورة عاملا سلبيا في المجتمعات والدول، بل قد يكونون عاملاً إيجابياً وفاعلاً ومهماً في تعزيز التنمية والتطوير والإبداع، وهي ليست المرّة الأولى التي نرى فيها المهاجرين ينجزون، فهنالك عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف أو أكثر في الدول الغربية من المبدعين والمتميّزين هم من خلفيات عربية ومسلمة وأفريقية وآسيوية، لم يجدوا شروط النجاح في بلادهم ولا بيئة جاذبة للتميّز، ووجدوها في الغرب، فالمشكلة ليست في الإنسان (مهاجراً إلى بلد ليجد البيئة المناسبة أو هارباً من بلد تطرد الكفاءات) بل هي في البيئة العامة المحيطة.
الدرس الثالث أنّ الأعداء الحقيقيين في الداخل ليسوا من يؤمنون بالتعددية والتنوع والتطوير، وليسوا ذوي البشرة أو الطائفة المختلفة! بل هم التيارات اليمينية المنغلقة التي تخشى على مصالحها الضيقة، وتلبّس ذلك أبعاداً تزعم أنّها وطنية، لكنّها في الحقيقة مجرّد أوهام وأنانيات فردية.
الغد