الرزاز والعقد الاجتماعي

مدار الساعة ـ نشر في 2018/07/15 الساعة 16:43
يدور في العالم جدل منذ عقود عن إنموذج الحكم المثالي للشعوب، وعن شكل الحكم الذي يستطيع تنظيم المجتمع ودفع الجميع للمشاركة في سلطاته وبث روح المبادره في المجتمع، وهل ما يصلح لشعب بالضرورة يصلح لآخر، ومتى يصح تطوير نموذج ما في بلد ما، وما هي النظرية السياسية التي تستطيع التكيف والانتقال بشعب ما الى مساحات واسعه من الحرية تمكنها من استنهاض همم الجميع باعتبارهم شركاء في التغيير الديمقراطي ، ومحركين لادوات الانتاج الاقتصادي ، لا مجرد أدوات في خدمة أي نظام.

والآن ، وقد انتقل الحديث الى عقد اجتماعي جديد طرح ملامحه الاولى الدكتور عمر الرزاز رئيس الوزراء في خطاب طلب الثقة من مجلس النواب ، ضمن رؤيه أساسها الانتماء للوطن والبيعه لقائد الوطن المفدى ومنح الحريه للشعب ضمن ضوابط يفرضها واقع البلاد والعباد وحالة النضج المجتمعي في إطار المشروع النهضوي الاردني الجديد . في ذلك نقول أن هناك خللاً بنيوياً تحمله كل الاشكال التي أطلق عليها مجازاً نماذج ديمقراطية في العالم على كافة مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إذا طبقت دون مراعاة الظروف والبيئة التي طبقت فيها، فعظمة النظريات السياسية - أي نظريات الحكم - في قدرتها على التطور أو إعادة التشكيل وتجديد نفسها باستمرار، وأنَ الحل لأزمة الديمقراطية هو في بناء نموذج خاص لكل قطر يأخذ بكل متغيرات المجتمعات ويعيد صهرها في نظرية جديده للديمقراطية تراعي كل ما سبق وتعكس نفسها مباشره في كل التشريعات الناظمة للحياه السياسية من دساتير البلدان التي تولد فيها وهو لا بد أن الدكتور الرزاز قد أخذ به عند طرح ملامح النموذج الجديد. ومن الحلي القول ان جميع النظريات تخضع الى بحث أطارها التربوي والاجتماعي والاقتصادي لتصل مع تطور المجتمع وتحوله الى النموذج السياسي والى إطار الدوله مدنية بامتياز، والى درجة المثالية النظرية شريطة تعاقد كل مكونات وفئات المجتمع على هذه النظرية التوافقية حتى تصبح شريعة للمتعاقدين وتصبح منهجاً للعمل والفكر وتضع الجميع امام مسؤولياتهم في الاندفاع للبناء والابداع، وهذا لا يتم الا بالحوار العميق بين جميع المكونات لا بفرض نموذج جاهز على المجتمع لمناقشته، بل بوضع الاطار العام له وترك المجتمع ليقرر بعد ذلك شكل النموذج الخاص به.

ان حقيقة الديمقراطية وهي عصب الحرية وعنوان اي نموذج جديد في انها تشكل في اي بلد سواء في نماذج الديمقراطية الغربية كمثل النموذج الرئاسي الفرنسي او الرئاسي الامريكي او البرلماني البريطاني او في نظام الجمعية السويسري مدارس للتعلم آخذين بعين الاعتبار ان ظروفاً تاريخية هي من أفرزت هذه النماذج ويعترف جميع منظري الفكر ان هناك ثغرات كبيره في تطبيقات النماذج سالفة الذكر، ولكن لا زالت اغلبية الكتله التصويتية في هذه الدول تتبناها كما هي، مع مطالب دائمة بالتغيير ، وقد حصل ان كيفت هذه النماذج نفسها في التطبيقات الاقتصادية والاجتماعية مع احتفاظ الهيكل السياسي بشكله مؤقتاً، فكيف لمن أخذ بجزء من هذه النظريات ان يدعي مثالية ما لديه من شكل سمي ديمقراطي مجازاً وهو أبعد ما يكون عن ذلك.

لقد كشفت الحقائق أنَ الصيغ التمثيلية المطبقة في كثير من دول العالم النامي تزييف للديمقراطية، وما أدوات الحكم في هذه الديمقراطيات إلا أقنعة تخفي أنظمة النخب والقلة المتغولة على الشعوب والمصادرة لحريتها بحجج واهية هدفها الوحيد الحفاظ على مصالحها ومكتسباتها، ولذلك قلنا إن انعقاد انتخابات نيابية في بعض البلدان واجراء انتخابات رئاسية لا يعني ان هذه أنظمة ديمقراطية تملك شعوبها حريتها، بل انها ديكتاتورية مقنعه سرعان ما ستتهاوى تحت وطأة ثقل التزييف والتزوير، وأن اقتصادياتها ستشهد انتكاسه وان المجتمع ان عاجلاً او آجلاً سيثور للخلاص من الانتكاسة، وإعادة الحياة لما تحطم من اقتصاد ونمط حياة يضمن الحرية والعداله ان لم تكن نتاج لعقد اجتماعي يحدد المسؤوليات والحقوق والواجبات ويرسم الشخصية الوطنية لافراد المجتمع.

إن في المنهج التشاركي الحر القائم على فلسفة الانتاج والديمقراطية دليل نظري اقتصادي وسياسي واجتماعي لحل مشكلة المشاركة عبر إيجاده أداة الحكم التي تعبر عن الشكل السياسي في فكرة خلاقة خاصة بكل مجتمع، وهي العلامة الفريدة والفارقة في هذا المنهج وثابته الوحيد، وتجعل من النظرية الجديده بديلاً حقيقياً ومهماً لتطبيقات السلطة الموجودة , أي بمعنى أن فكرة بناء النموذج الديمقراطي في كل قطر تشكل توقعات مستقبلية لتطور أنموذج الديمقراطية للصورة المثلى ، أما النظريات التقليدية وهي الناظم للديمقراطية العربية وديمقراطيات دول العالم الثالث اجمالاً فهي زائفة وحياتها الحزبية بائسة ولكن بشكل أكثر تشوهاً من نظيرتها الغربية، وربما تتحمل القسط الأثقل في كل مراجعة موضوعية لأسباب تدهور النهضة العربية تحديداً، و لا يكفي التبرير المعتاد بالتأشير على مسؤولية الاستبداد السلطوي، باعتباره هو المانع الأول، في طبيعته لنشأة التجمعات السياسية المستقلة عنه فذلك وضع بنيوي تاريخي غير محتاج لبرهنة تأييداً أو رفضاً، ولكن الأساس الذي قامت بموجبه هذه الأنظمة السلطوية هو الخلل الجوهري، وهو الأساس الذي أنتج أنظمة مشوهة، وهذا ما سبب الانفجار الذي أطلق عليه الربيع العربي، ولكن الانفجار كان دموياً ومأساوياً لانه افتقد نظرية التغيير المطلوبه فكانت الفوضى هي العنوان الابرز لهذه الثورات التي نعتقد ان الفرصة كانت سانحه لتجاوزها مبكراً بعقد اجتماعي بين كل المحكومين وحكامهم لوضع نموذج حكم توافقي يحقق العداله ويجنب هذه الدول الدمار.

لقد أفرزت الأفكار التقليدية في دول العالم الثالث والوطن العربي منها مؤسسات حكم لا تقبل التعددية، وكانت تلك هي بداية التقليد الاحتكاري الذي سيطبع مؤسسات الحكم، سواء كان جمهورياً أو ملكياً أو قبلياً عشائرياً، إنه طابع الاستحواذ المزمن على السلطة لكل من يتمكن من القبض على مفاتيحها، والتربع على عرشها، من دون كل الآخرين، وهذا التقليد لازم مختلف التكوينات الحزبية وأشباهها التي ستتوالد ، لأن التعددية بظنهم أنها التعددية الحزبية ، والحقيقة أنَ التعددية هي ما يوجد بعد حل أداة السلطة مشكل الديمقراطية ، أي أنَ التعددية هي تعددية الأفكار في إطار وحدة المنهج ووحدة أداة السلطة، ومن هنا أعتقد ان طرح الملك عبد الله الثاني ملك الاردن لاوراق نقاشية عديده هي خطوة للبحث عن النموذج الاردني الخاص سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لبناء نظرية مجتمع تحقق العداله والمساواه في اطار دولة الحريه اي دولة المؤسسات والقانون.


ان أي ديمقراطية لا يمكنها أن تترعرع في ظل أوضاع عامة حافلة بعوامل عدم الاستقرار في مختلف مجالاتها، كأنما تمر مجتمعاتها في مراحل انتقالية دائماً، تصنعها صدف لا معقولة، بأيد مجهولة ، ومن هنا نفسر الأسباب التي حدت من انتشار فكرة الديمقراطية الحقيقية والحريه وفيها حل مشكلة البشرية عالمياً، ومن هنا نفسر ظهور التطرف والارهاب وغياب الوعي والتخلف، فغياب العداله والمساواه وغياب التربية والتعليم الابداعيه اورث الفقر والجهل والتعصب والجهويه والفئويه ومن ثم الارهاب والتطرف الذي لا نعتقد بالمطلق انه سينتهي مع انتهاء العمليات العسكريه في سوريا والعراق ومصر وليبيا وغيرها بل سينتقل من شكل الى آخر اذا لم يتغير نهج الاصلاح ونظرياته وادواته.

أن الحل في الديمقراطية عبر عقد اجتماعي جديد له ثوابته لوطنية، وهي في جوهرها وسيلة لضمان الحرية الثقافية والروحية والسياسية والاجتماعية، وبذلك فإن ما لا يضمن ذلك لا يمكن أن يسمى نظاماً ديمقراطياً، وعليه يكون من حقنا أن نختار ما يحقق المبادئ والقيم السياسية المناسب لهويتنا وواقعنا وبما يحقق الحرية للإنسان كجزء من المجتمع الموحد الهوية والسلطة، وهذا ما يحدده شكل الديمقراطية كمصدر للقوة للفرد والمجتمع.

إن الديمقراطية التي نريدها ضمن هذا المنهج النقدي ،هي ديمقراطية شعبية تمثل نموذج اردني متفق عليه كعقد اجتماعي في اطار مشروع النهضه الوطنية ،لأنها شكل متقدم من أشكال الممارسة السياسية و الاجتماعية، وتعبير عن التطور الحضاري والثقافي للمجتمع، وهي لا تقوم على مبدأ تقديس الأفراد، أو تقديس سلطتهم ،وأحقية هذا أو ذاك بالحكم دون غيره،بل هي تقيم وزنا فقط للمؤسسية المتمثلة بالسلطة الشعبية ،وأداتها في الحكم مجلس نواب قابل للتجدد والتطور يفرز ضمن قانون انتخاب عصري ديمقراطي تخوض فيه الانتخابات كتل ببرامج عمل ذات طابع اقتصادي وسياسي واجتماعي منتج، في اطار الكفاءة والقدرة على تمثيل مصالح الشعب عبر انتخابه من قوائم حزبية صرفة ذات برامج واليات عمل يضمنها الدستور حتى لو تطلب ذلك تعديلات دستوريه، وهي الأساس الذي يتمكن فيه الأفراد من ممارسة حقهم في السلطة تشريعاً ،وتنفيذاً ،وقضاءاً دون أي فصل قسري وذلك على اساس تبادل الحكومات مع بقاء سلطة الملك مصانه بالدستور باعتباره ضمانه.

وفي ضوء ذلك سيكون هنالك أشكال متعددة من الهياكل السياسية المنبثقة عن النظم السياسية التي سيفرزها هذا الشكل تتطلب تعديلات دستورية وقوانين جديده للامركزية والبلديات تقوم على اساس مركزية الاقاليم ، فلا بد للمجتمع الساعي نحو الديمقراطية التي نتحدث عنها من نظرية تغيير جذرية تحدد له الطريق الذي يحقق فيه الديمقراطية المنشودة، وتشكل نظرية التغيير أساسا للعمل الديمقراطي وهو اساس العمل السياسي ومن ثم ذات نظرية التغيير ستعيد النظر في النظامين الاقتصادي والاجتماعي المشوهين.

والتغيير الجذري مرتبط بالتخطيط الإستراتيجي الذي يمس جميع جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، وينتقل بها مرة واحدة نحو الهيكل الجديد الذي ينسجم والحرية الحقيقية وتشبع فيه الحاجات وتتحقق الديمقراطية بأبهى صورها ،فالأمر يتعلق بتغيير المجتمع، وتغيير المفاهيم وشكل الأنشطة السياسية والاقتصادية، لأن التغيير ليس عملاً مؤقتاً بل صيرورة للحركة الشعبية في التاريخ، وهذا يتطلب من الجماهير الوعي واليقظة المستمرة، وعدم التغافل والتسليم بالمفاهيم الرجعية ، والتسلح بفقه علمي يلغي المنهج التقليدي المتخلف . لكل ذلك نقول فليمنح الدكتور عمر الرزاز الثقة ولكن شركاء في دولة اساسها القانون والمؤسسات والعداله والحريه والفكر المبدع الخلاق.
وللحديث بقية
مدار الساعة ـ نشر في 2018/07/15 الساعة 16:43