ومِن الحبِّ ما قتل

مدار الساعة ـ نشر في 2018/07/15 الساعة 00:17

في إحدى المدن العربية أراد شاب خطبة فتاة يحبها، ولكنّ والده رفض بسبب الظروف المادية الصعبة التي تمنعه من إقامة تكاليف الخطبة والزواج، فاشترى الشاب مسدسًا ووقف على باب بيت والده يرجوه أن يستجيبَ لطلبه بخطبة البنت التي أحبها أو أنه سيطلق الرصاص على نفسه. لم يحرك الوالد ساكنا، فقام الشاب بإطلاق الرصاص على نفسه، ومات منتحرًا. غريبة هذه القصة، كيف يمكن للإنسان أن يموت من أجل الحب؟ (لستُ أروّج للفكرة فأنا أرويها مع التأكيد على أن الانتحار حرام في الإسلام، وخطيئة في المسيحية).

إنه أمر عجيب أن نجد من يموت لأجل الحب في زماننا، حيث نجد الملايين يموتون بسبب الكره، والحقد، والتنافس، من خلال الحروب التي اشتعلت بين الشعوب والأمم. الحرب تحتاج إلى كره يعمي صاحبه عن رؤية الحق، ويصمّه عن الاستماع لصوت العقل، حتى يفيض بالغيظ والحقد، ولا يرى خلاصه وراحته إلا في قتل الآخر الذي اتخذه عدوا.

تُروى حكايات كثيرة في التاريخ عن أشخاص ماتوا من شدة الحب، ومنها ما رواه ابنُ سِيرِين أن عبد الله بن العجلان خرج في الْجَاهِلِيَّة هائمًا على وجهه لَا يدْرِي أَين يذهب فَقَالَ:

أَلا إِن هندا أَصبَحت مِنْك محرما ... وأصبحت من أدنى حموتها حما

فَأَصْبَحت كالمغمود جفن سلاحه ... يقلب بالكفين قوسا وأسهما

ثمَّ مدّ بهما صَوته فَمَاتَ قَالَ ابن سِيرِين: فَمَا سَمِعت أَن أحدا مَاتَ عشقا غير هَذَا، وعدم سماع ابن سيرين لا يعني أن هذا الحدث لم يتكرر، ولهذا قال صاحب كتاب (نهاية الأرب في فنون الأدب): « وأما من قتله العشق فكثير جدّا لا يكاد يُحصر».

ونجد الشاعر كعب بن جعيل يصف لقاء الحبيب بمحبوبته بإنسان أرهقه العطش وكاد يقتله، فلما رأى الماء ظل يشرب منه ولم يتركه حتى تشقق بطنه من شدة الامتلاء ومات، وهذا معنى قوله:

وكان وإياها كحرّان لم يفق عن الماء إذ لاقاه حتى تقدّدا

فكما أن جفاء المحبوب يسبب الموت حزنًا، فإن وصله قد يميت فرحًا وسرورًا، بل إن بعض العشاق قد تعجب من بقاء العاشقين والمحبين، وكأنه يرى أن الأصل في المحبّ الموت لا الحياة، ويروى في
هذا أن فتية أقبلوا على ابن عباس عشية عرفة يحملون عروة بن حزام العذريّ في كساء، وهو ناحل البدن، فوضعوه بين يديه ثم قالوا: استشف لهذا يا ابن عمّ رسول الله، فقال: وما به؟ فترنم عروة بصوت ضعيف خفىّ الأنين، وهو يقول:

بنا من جوى الأحزان والحبّ لوعة ... تكاد لها نفس الشّفيق تذوب

وما عجب موت المحبّين في الهوى؛ ... ولكن بقاء العاشقين عجيب

ثم حمل فمات في أيديهم، فقال ابن عباس: هذا قتيل الحبّ، لا عقل ولا قود (أي لا دية فيه ولا قصاص).

وقد مرض أبو عبد الله الجيشاني بسبب حبه لصفراء العلاقمية، التي يصفها المؤرخون بأنها كانت جارية سوداء، فطلب بعض أهله من سيدها أن يرسل صفراء إلى أبي عبد الله لعله يشفى إن رآها، ففعل.
فلما دخلت عليه قالت له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: بخير ما لم تبرحي، قالت: ما تشتهي؟ قال: قربك، قالت: ما تشتكي؟ قال: حبّك، قالت: فتوصى بشيء؟ قال: نعم، أوصى بك إن قبلوا مني،
فقالت: إني أريد الانصراف، قال: فتعجلي ثواب الصلاة عليّ، فقامت فانصرفت، فلما رآها مولية تنفس الصعداء، ومات من ساعته.

الدستور

مدار الساعة ـ نشر في 2018/07/15 الساعة 00:17