هذه قصة العرموطي مع فتوى المهرجان
مدار الساعة ـ نشر في 2018/07/05 الساعة 01:07
يسأل النائب صالح العرموطي المفتي العام للمملكة: ما الحكم الشرعي لحضور مهرجان جرش؟
السؤال -بالطبع- جاء في رسالة نشرتها وسائل الإعلام وأثارت ردود فعل متباينة، وفي الرسالة يؤكد النقيب السابق للمحامين أنه «يتقيد بأحكام الشرع الحنيف والضوابط الشرعية ويحتكم اليها في القول والعمل»، وبالتالي فانه اعتذر عن (عدم) حضور افتتاح المهرجان...ثم يقول: « ارجو من فضيلتكم ان تفتوني في أمري وأمر الأمة وما كنت قاطع أمر حتى تشهدون».
استوقفتني الرسالة لأكثر من سبب، أولها ان مرسلها أستاذ في القانون ونائب في البرلمان وهو بالتالي يعرف العنوان الذي يفترض أن يذهب اليه، حيث يمكن ان يسأل عن جدواه الثقافية او الاقتصادية او عن الجهة التي سمحت وتتولى المسؤولية عنه، وهي الحكومة بالطبع، فإقامته أو وقفه لا يتعلق بفتوى تصدر، ولو كان كذلك لأغلقنا بعض البنوك والملاهي التي صدرت فيها فتاوى يعرفها استاذنا جيداً،
السبب الثاني أن الرجل تعمد اقحام دائرة الإفتاء بالمهرجان، ليس من اجل الاستفتاء عن واقعة اعتذر أصلاً عن المشاركة فيها وانما لوضع هذه المؤسسة الدينية في دائرة الحرج إن لم أقل تجريحها والإساءة اليها، وأتمنى أن يكون ظني هنا غير صحيح، أما السبب الثالث والأهم فهو أن الأستاذ العرموطي يعرف الإجابة تماماً، ليس لأنه فقط فقيه قانوني وعارف بأحكام الشريعة، وانما لأنه سبق وان طرح هذا السؤال وتلقى عليه ردّاً مكتوباً ومفصلاً.
سأروي القصة هنا، ففد شاءت الاقدار ان أكون شاهداً على رسالة بعثها الأستاذ العرموطي لسماحة المفتي الأسبق نوح القضاة رحمه الله، وما زلت أحتفظ بهذه الرسالة المؤرخة في 7-6-2008 أي قبل عشر سنوات بالتمام، واحتفظ برد الشيخ نوح عليها، الرسالة تضمنت السؤال نفسه عن مهرجان جرش، هل حضوره حلال أم حرام؟ وقبل أن تصل المفتي تعمد العرموطي بتسريبها لأحدى الصحف المحلية -تماماً كما حصل في رسالته الأخيرة-، ما يهمني هنا هو ردّ الشيخ نوح رحمه الله الذي جاء في 4 صفحات، وقد استهله بالحرص على وحدة الصف الإسلامي وعدم المناكفة، ولهذا -يقول الشيخ نوح- «أحببت ان يكون جوابي هذا سرياً وشخصياً- لأنني أحببت ان أبين فيه نقاطاً قد يتخذها البعض مجالاً للفضول والتحريش بين المحسوبين على الصف الإسلامي».
ثم يضيف الشيخ نوح رحمه الله في رسالته: «لا شك أنك تعلم حكم ما تسأل عنه، بل كل مسلم يعلم حكمه، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم « الحلال بيّن والحرام بيّن»، إذا المقصود من السؤال (الكلام للشيخ نوح ) ادخال دائرة الإفتاء في حالة الشد والجذب التي اشرت اليها في كتابك، ومن المعلوم ان كل متدين فضلاً عن الفقهاء، يعارضون كل ما يخالف الشريعة الإسلامية ويحاولون تغيير المنكر بالوسائل المتاحة (...) والسكوت على بعض المخالفات الشرعية لا يعني إقرارها والرضى بها، فها انت ترى في ديار المسلمين مخالفات شرعية (ذكرها بالتفصيل) وسكوتنا عن هذا كله لا يعد إقراراً لهم، وقد قال العلماء بجواز السكوت عن انكار المنكر اذا خشي ان يترتب عليه منكر أكبر منه او اذا كان لا ترجى فائدة من إنكاره".
الرد كان طويلاً لكن استوقفني فيه فقرة خاطب فيها الشيخ نوح رحمه الله الأستاذ العرموطي قائلاً «اسمح لي، أيها الأخ الكريم ان اذكرك بانك رأيت في كتابك مدار البحث ان هذا المهرجان يخالف المادة (2) من الدستور التي اعتبرت ان دين الدولة الإسلام، وأنا لا اريد أن احرجك، لكن ما رأيك برفع دعوى أمام المحاكم ضد القائمين على المهرجان باعتباره مخالفاً للدستور» ومن المعروف ان الأستاذ العرموطي كان آنذاك نقيباً للمحامين.
اكتفي بهذه الاقتباسات مع انني كنت أتمنى ان أنشر الرسالة كلها، بما تفيض به من حكمة وأدب، يدركها كل من عرف الشيخ نوح رحمة الله عليه، لكنني استأذن بتسجيل « 5 «ملاحظات: الملاحظة الأولى ان استفتاء العرموطي وان كان مشروعاً في الظاهر الا انه «يبطن» نوايا غير مفهومة – على الأقل-، ليس فقط لأنه سؤال ( من يعرف) ومن سبق وحصل على رد عن السؤال ذاته، وانما أيضاً لأنه يخفي أهدافاً أخرى كنت «اربأ» بأستاذنا ان يقع فيها، اما الملاحظة الثانية فهي ان مسألة الفتوى هذه لا تتعلق بحكم الدين الذي يمكن لأي مسلم ان يعرفه بفطرته السليمة، وانما بحكم السياسة التي لها عنوان آخر بعيد عن دائرة الإفتاء، والوصول اليه بالنسبة لنائب في البرلمان متاح بسهولة، الملاحظة الثالثة هي أنني لست في مقام اصدار الفتاوى هنا، ولكن ما أعرفه أن من حق المفتي ان يجيب على أي سؤال للمستفتي او لا يجيب، استناداً لما يقدره من مصالح ومآلات للإجابة، كما ان «تعميم» الحكم على واقعة كمهرجان جرش سيكون متعسفاً، نظراً لاختلاف ما يقدمه ولضرورات تقدير حالة « البلوى العامة « التي يعيشها الناس من جهة التزامهم بأحكام الشرع.
أما الملاحظة الرابعة فهي أننا لا نريد – ولا يجوز ان يجرنا أحد- للوقوع بين فكي كماشة «التحريم» باسم الدين و «التجريم» باسم الدفاع عن قيم الدولة المدنية او باسم حق الناس في الاستمتاع والحياة السعيدة كما يرونها، هؤلاء المحرّمون لا يفهمون الدين كما ان أولئك الذين «جرّموا» كل من انتقد المهرجان لا يفهمون الحياة ولا يقدرون حق الناس في حرية اختياراتهم.
تبقى ملاحظة خامسة وأخيرة اترك التعليق عليها للقارئ الكريم، وهي المقارنة بين موقفين: موقف الشيخ نوح رحمة الله عليه حين أصرّ ان تكون رسالته شخصية وسريّة، (ناهيك عما تضمنته من حكمة وصراحة وأدب) وبين رسالة النائب العرموطي التي تعمد نشرها قبل أن تصل للمفتي، ثم تعمد إخفاء رسالة أخرى سبق ان تلقى فيها إجابة عن السؤال ذاته من دائرة الإفتاء نفسها، ومن الشيخ نوح الذي كان ولا يزال يحظى – عليه رحمة الله- باحترام الأردنيين وتقديرهم.
الدستور
مدار الساعة ـ نشر في 2018/07/05 الساعة 01:07