إساءة أميركا للأحادية

مدار الساعة ـ نشر في 2018/07/02 الساعة 10:26
اكثر ما يميز ادارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب ، تهديدها للمنظومة الدولية ، والدفع بها نحو الفوضى وربما الانفلات على وقع تصرفات وقرارات غير محسوبة، تستهدف البنية التحتية للنظام الدولي ، بما هي علاقات واتفاقيات ومنظمات دولية ، تجسد القواعد والادوات التي تحكم حركتة وتضبطها ، باعتباره مرجعية معتمدة في ادارة شؤون العالم، غالبا ما يتم فرضها بالقوة او بمنطق القوة، ترجمة لعناصر الهيمنة والنفوذ التي تمتلكها الاطراف التي تتولى ادارة هذا النظام وتقوده وتتربع على قمته . وبما ان مستقبل دول العالم ومصالحها يتوقف على كيفية ادارة هذه المرجعية الدولية، فان هذا يتطلب وجود توافقات وتفاهمات، ولو بالحدود الدنيا ، على ضرورة مراعاة هذه المصالح ، والا اصبحت ادارة النظام الدولي محل شك او نقاش ، قد تدفع بالاطراف الاخرى الى اعادة التفكير بضرورة مراجعة حساباتها وترتيباتها ، بما يشبه تنظيم امورها ومواقفها، استعدادا للدخول في سيناريوهات وحوارات جديدة ، قد تقود الى اعادة النظر بتركيبة او تشكيلة النظام الدولي مراعاة لمصالحها. وان الاطراف الدولية التي قد تكون وافقت على القيادة الامريكية الاحادية للعالم بعد انتهاء الثنائية القطبية، بانهيار الاتحاد السوفياتي ، فانها قد فعلت ذلك من باب الاعتراف بامتلاك الولايات المتحدة للامكانات والقدرات المادية التي تؤهلها لذلك ، شريطة عدم اساءتها لهذه الاحادية. وما حصل ان اميركا اخلت بهذا الشرط ، وكانت البداية من غزوها للعراق وافغانستان ، لتستمر في تحديها للمنظومة الدولية ، وصولا الى عهد الرئيس ترامب الذي واصل اختراقه وانقلابه على اركان البناء الدولي وقواعده ، والذي يفترض انه في عهدته ومن مسؤوليته . فاذا به يضرب عرض الحائط بالمرجعيات والمنظمات والاتفاقيات والقرارات الاممية ، حيث وجه نحو الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي الايراني ( بغض النظر عن الموقف منه ) ومنظمة اليونسكو ومجلس حقوق الانسان واتفاقية الشراكة عبر الهادي ، واعادة النظر باتفاقية الشراكة عبر الاطلسي والتبادل الحر مع كندا والمكسيك ، واالدخول في حرب تجارية مع قوى دولية فاعلة كالصين والاتحاد الاوروبي وكندا واليابان وغيرها ، والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الاسرائيلي ، ونقل مقر السفارة الاميركية اليها ، منتهكا بذلك القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة والقرارات والمرجعيات الدولية ، التي تعتبر القدس مدينة محتلة ومن قضايا الوضع النهائي التي يحسم مصيرها بالتفاوض ، ولا سيادة اسرائيلية عليها. ما يبعث باشارات خطيرة تنم عن مستقبل غامض ومجهول ينتظر العالم ، اذا ما تركت الامور تدار بهذا الطريقة الفردية السلبية ، بعيدا عن الاسس والضوابط التي شكلت ما يسمى بالارضية او القاعدة التي قام عليها النظام الدولي . ما يجعلنا امام احتمال تشكيل اقطاب او محاور دولية جديدة ، قد تدفع باعادة تشكيل الخارطة الدولية من الاحادية الى المتعددة الاقطاب ربما من اجل حماية المنظومة الدولية من المخاطر والتهديدات ، التي قد تعترضها جراء الانقلاب الترامبي على القواعد الدولية، والاخلال بشروط القيادة العالمية. ولنا في محاولة دول اوروبا اقامة مظلة امنية خاصة بها ، بعيدا عن المظلة الامنية الاميركية ، ما يؤشر الى استعداد اطراف دولية ، لاعادة النظر في اولوياتها وحساباتها ، وتبني سياسات واستراتيجيات وتوجهات جديدة من اجل حماية مصالحها ، حتى لو اقتضى ذلك الدخول في محاور واحلاف مع دول واطراف اخرى متضررة من النهج الاميركي الصادم ، والذي ينذر باحتمال وقوع مواجهات مستقبلية بين حلفاء الامس تحديدا ، بغض النظر عن طبيعة هذه المواجهات والادوات المستخدمة فيها . المهم ان هناك ما يبرر او يدفع بالامور ويضعها امام احتمال اعادة النظر بتركيبة النظام الدولي ، بحيث يأخذ شكلا جديدا يراعي بصورة اوسع واشمل المصالح العالمية من بوابة رد الاعتبار للادوات والآليات التي يعول عليها في ادارة شؤون المنظومة الدولية ، ممثلة بالمرجعيات والمنظمات والاتفاقيات الدولية. ولنا ان نتخيل احد هذه السيناريوهات التحالفية التي لا نستبعد حدوثها ، ممثلا باقامة محور عالمي يضم دول الاتحاد الاوروبي والصين وروسيا واليابان وحتى بعض القوى الاقليمية الفاعلة والمؤثرة، بحيث تجتمع الكثير من عناصر القوة الصناعية والتقنية والمالية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والبشرية في محور واحد قادر على ردع الولايات المتحدة وضبط سياساتها وتصرفاتها المتهورة، التي باتت تهدد العالم بالفوضى وعدم الاستقرار، بما يشبه الاعلان عن اقامة نظام دولي جديد اكثر امنا واستقرارا . عند ذلك سنتيقن بان الادارة الاميركية هي من حرضت الاطراف الدولية والاقليمية المؤثرة ودفعت بها الى هذه الصحوة والاستفاقة من اجل حماية مصالحها اولا، وجعل العالم اكثر امنا واستقرارا ثانيا. تأكيدا على عدم وجود صداقات دائمة او عدوات دائمة في عالم السياسة والعلاقات الدولية ، بقدر ما توجد هناك مصالح دائمة، هي من يحدد، ليس سياسة الدولة او الدول فحسب، بل شكل النظام الدولي وتركيبته ايضا.
مدار الساعة ـ نشر في 2018/07/02 الساعة 10:26