موسكو بين زيارتين

مدار الساعة ـ نشر في 2018/06/09 الساعة 01:34

بين آخر زيارتين لي لموسكو، مسافة من الزمن تمتد لثلاثة عقود، هي عمر “الانهيار الكبير” وفقاً لتعبير زبيغنيو بريجنسكي في كتابه الشهير عن قصة صعود وهبوط الاتحاد السوفياتي ... زرتها في مفتتح العام 1988، عندما كانت عاصمة للاتحاد السوفياتي، “الصديق الصدوق”، كما درج الشيوعيون على وصفه آنذاك ... وانتهيت للتو، من زيارة لها بوصفها عاصمة “الاتحاد الروسي”، الذي ما زال يساريون كثر، يتعاملون معه، بوصفه “وطن الاشتراكية الأول”.

يومها، كانت “البريسترويكا” و”الغلاسنوست” تعصفان بـ”اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية”، وكان ميخائيل جورباتشوف، هو رجل العام، وما سبقه وأعقبه من أعوام ... قضيت أسبوعين من الزمن، بدعوة من نائب مدير وكالة نوفوستي، كارين خاتشاتورف، وطفت بالمدينة و”لينينغراد” وعرجت على تالين عاصمة أستونيا على البلطيق، وأديت زيارة للعاصمة الأرمينية يريفان ... وأجرينا محادثات، ونجحنا في انتزاع موافقة رسمية على فتح مكتب لمجلة “الهدف”، وتوفير شقة لمن سيتولى شؤونها في تلك البلاد... واليوم أزورها بدعوة من نائب رئيس مجلس الدوما، بيتر تولستوي، حفيد الروائي والمفكر الأشهر، ليو تولستوي.

صادف أن الدكتور جورج حبش، كان في زيارة للعاصمة السوفياتية، طويلة نسبياً، أقرب إلى “الدورة التثقيفية”، بدعوة رفيعة، وبرنامج خاص، جمعه مع كبار المستشارين والمسؤولين، من بينهم يفغيني بريماكوف، الأكاديمي الأشهر، الذي سيصبح رئيساً لوزراء روسيا، لم ألتقه هناك، بل ولم أعرف بوجوده إلا بعد أن عدت لدمشق بعدة أيام.

مدينة “اللون الواحد”، هو الوصف المختصر الذي يمكن إطلاقه على موسكو تلك الأيام... لا أحزاب ولا تيارات ولا “مواقف أو اجتهادات خاصة”، كل من تلتقيه رسمياً، كان يعيد عليك سرد الحكاية ذاتها، وجميعها قصص عن التفوق وأخبار الانتصارات، وأسرة الشعوب السوفياتية التي تعيش بوئام وسلام، ونجاحات في معالجة الفقر والبطالة، و”ديكتاتورية الأطفال” التي حلت محل “ديكتاتورية البروليتاريا”، وأساطير غامضة عن تفوق مدّعى على الغرب الإمبريالي، لم نكن نجرؤ على مجرد الاستفسار عنها، أو السعي لسبر كنهها.

لا مقاهي تفترش الشوارع، ولا احتكاك حقيقيا مع المواطنين، طوابير المتسوقين تظهر فجأة وبأطوال مرعبة، لمجرد انتشار شائعة عن وجود سلعة ما ... الألبسة ذاتها، وحتى العطور النسائية، لم تعرف التنوع، لكل نساء الاتحاد السوفياتي الرائحة نفسها، وكل الرجال يرتدون بذلة من التصميم ذاته، إلى حد أنني لطالما شعرت بالضيق لنظرات الرجال إلى بذلتي ذات الصفين من الأزرار، ولم تكن تلك “الموضة” قد وجدت بعد، طريقها إلى تلك البلاد.

لم تكن تلك زيارتي الأولى لموسكو، فقد ذهبت إليها شاباً في الثلاثين، للمشاركة في “مهرجان الشباب العالمي”، كان افتتاحه أخّاذاً ويخلب الألباب ... ولأن فعالياته كانت تجري في الهواء فقد أدهشنا كل هذا الرهان على طقس روسيا المتقلب، قبل أن يأتينا الخبر اليقين من مرافق لنا: لن تمطر في موسكو يا رفاق هذا الأسبوع، لن نسمح لها بذلك، فما كان منّا غير إطلاق صيحات الإعجاب والدهشة، مصحوبة بموجة من التصفيق الحار، لقد بدأت الشيوعية تتحكم بالطبيعة، وتكسر ما نشأنا عليه من تابوهات، أية فرحة تلك.

كنت أتابع أخبار الانتفاضة الأولى، أولاً بأول، من جهاز راديو متطور من ماركة “سوني” جاءني به من الدمام زوج اختي “أبو جميل” رحمه الله، وكانت له لواقط تثبت على النافذة، لاستدراج الموجات القصيرة والطويلة ... كنت أسمع بعض الإذاعات التي يتعذر وصولها إلى موسكو، وعندما شعر صديقي بقدرتي على المتابعة اليومية، وأنا الذي مضيت أياماً في ضيافته، سألني عن “مصدر” أخباري، فأشرت إلى “الترانزستور”، فطلب مني إحضاره في اليوم التالي، لتفحصه وتقليب موجاته، كان سلعة نادرة، غير متوفرة حتى للإعلاميين الكبار في تلك البلاد.

كانت زيارة الـ ‘GUM”، أمراً لا مفر منه، نتبضع السوفينير واللعبة الروسية الشهيرة، الحبلى الواحدة بالأصغر منها، وتماثيل لينين وما يتيسر من الكريستال الروسي الجيد والرخيص في تلك الآونة ... لكن الدهشة كانت تعقد لساني، وأنا أرى موظفي “الكاشير” ما زالوا يستخدمون “العداد” الخاص بدور الحضانة والصفوف المدرسية الأولى، فيما “الآلات الحاسبة” الصينية والكورية تملأ أسواق بلادنا ... كنت أشعر بالتفوق، وأنا أرى شباناً وصبايا يقتربون مني بحذر، يريدون مشاركتي بعض سجائري والاستفسار عن مصدر ثيابي، ولكم أن تملأوا الفراغات في هذا النوع من القصص.

حزنت على تغيير اسم “سانت بطرسبروغ” إلى “لينينغراد”، هذه مدينة بطرس الأكبر، كل شيء فيها يذكر بالرجل، القصور والجسور والمتاحف والعمارة ... لكنها الشيوعية المنتصرة، تريد أن تمحو تاريخ من سبقها، وفرحت حين عادت المدينة لاسمها الأصلي ... كنت أشعر بثقل البطالة لمجرد وجود ثلاثة مناوبين (شيفتات) في المصعد الواحد، لا وظيفة لهم إلا الضغط على “الزر” الموصل للطابق الذي تريد ... كنت أنظر إلى المناوبين في كل طابق من فندق “روسيا” لا وظيفة لهم، سوى مراقبة من يدخل هذه الغرفة ومن يخرج من تلك ... كنت أتلقط كل كلمة ونكتة، عن العلاقة بين القوميات، وبعضها شديد العنصرية، بالذات تجاه الأرمن واليهود ... كانت الشعارات الكبيرة والكليشيهات بالنسبة لي، أمراً مطروحاً للتصدير، من دون أن يعكس حقيقة الوضع ومجرياته في القوة الكونية الثانية.

عندما عدت إلى دمشق، طلبني “الحكيم” لمعرفة انطباعاتي عن “الصديق الصدوق”، عرضت صورة متشائمة للغاية، تبشر بانهيار وشيك، لم يكن الأمر بحاجة لكثير عناء لمعرفة ذلك على أية حال ... بيد أنني فوجئت من انطباعاته التي شكلها بنتيجة زيارته الطويلة للعاصمة السوفياتية ... لم يأخذ انطباعاتي على محمل الجد، وقال لي بالحرف: تخيّل أننا بعد عشر سنوات من البريسترويكا سيكون لدينا “Two Soviet Unions”، فكرت ملياً بفجوة الانطباعات، ووصلت إلى تفسير مفاده: كل من التقاهم جورج حبش من كبار المسؤولين والباحثين في المؤسسة الرسمية، وتلكم كانت انطباعاته، وكثير ممن التقيتهم أنا، كانوا من مستويات أخرى، عامة الناس في المطاعم وأماكن السهر، فضلاً عن كوني بخلافه، لم أنتقل إلى الماركسية (السوفياتية/ الماوية/ الجيفارية) من الفكر القومي العربي، بل جئتها من بوابة “التروتسكية”، النقدية في مضمونها لكل التجربة السوفيتاتية/ الستالينية.

موسكو اليوم، مدينة أخرى، صورة مصغرة عن العالم، ونموذج “للقرية العالمية الصغيرة”، ولولا بقايا رموز من العهد الشيوعي: تماثيل ماركس ولينين” ونصب تمجد عصر الفضاء، والرجل والمرأة بالشاكوش والمنجل، لما اعتقدت أن الشيوعية مرت بها ... رأيت عن بعد، أمين عام الحزب الشيوعي، بيد أنني أعتقد جازماً، بأن روّاد ماكدونالد وبيتزا هت في موسكو، يفوقون بأعدادهم أعداد من تبقى من منتسبي حزبه ... موسكو، مدينة مفتوحة على العالم، شرّعت أبوابها للعولمة، وعلى مقربة من فندق متروبول، حيث أقيم، لم تبق دار أزياء أو عطور في العالم، لم تفتتح فرعاً لها... سيارات “اللادا” التي احتكرت شوارعها، أخلتها لمختلف الماركات العالمية ... لا قيود على الحركة والصلة بالمواطنين، ولا أذونات مسبقة للتنقل من مدينة إلى أخرى، الأجانب، السائحون والمقيمون ورجال الأعمال والعمال، من كل لون وملّة، والجاليات تتكاثر في أوساطها، بدلالة المطاعم والمنتديات الخاصة بكل منها.

التنوع الاجتماعي والاقتصادي والتجاري والثقافي، يليق بموسكو، مع أن الكثير ما زال يكتب ويقال عن نظامها السياسي وضيقه بالتعدد واستلهام قيم الحرية والمشاركة والديمقراطية ... بيريسترويكا جورباتشوف، أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، لكنها فتحت الباب لإعادة بناء روسيا ... وفي ظني أنه مسار غير قابل للعودة والانتكاس، ألم تقل الماركسية بأولوية البنى التحتية وأثرها الحاسم في تشكل البنى الفوقية، وجدلية العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ... روسيا الرأسمالية اقتصادياً، سائرة في طريق ذي اتجاه واحد، وإن طال السفر.

الدستور

مدار الساعة ـ نشر في 2018/06/09 الساعة 01:34