أوبريت ’سنابل‘: عندما يمد الفن يده للعلم فتصافحه الإدارة الشجاعة
مدار الساعة - تتسم الملتقيات والمنتديات والمؤتمرات العلمية وتلك المتخصصة بحقل من حقول العمل والإنتاج وعجلة الاقتصاد وباقي العلوم الإنسانية والتطبيقية، بالصرامة وخوضها في كثير من أوراقها ومداخلاتها بالأرقام والإحصائيات. كما تسعى في ختام انعقادها لنشر التوصيات، وتبني القرارات، وتنشغل بإحداث تقدم ما في حقلها وعالمها، متلمّسة بشكل أو بآخر هواجس العاملين فيها وتطلعاتهم.
من هنا فإن خلق مناخ مغاير في حفلات افتتاح هكذا ملتقيات ومحافل محلية أو عربية أو دولية، مما يصبح ذا أهمية قصوى، تتعدى مجال التسلية، إلى محاولة التأصيل للغةٍ مشتركةٍ وتجانسٍ مُثمرٍ بنّاء ما بين الفن وبين مختلف العلوم والمعارف الإنسانية.
أوبريت "سنابل" الذي قُدِّمَ قبل أيام في حفل افتتاح المنتدى الزراعي الدولي الأردني الأول، يمثل أنموذجاً مهماً في هذا السياق.
فأمام 62 جهةً مشارِكةً تمثل دولاً ومنظمات ومؤسسات ووكالات عربية وأجنبية من جهات العالم الأربع، اختار القائمون على المنتدى (وزارة الزراعة وجهات رسمية وأهلية محلية أخرى)، أن يتجلى الأوبريت الذي أخرجه وأشرف عليه بشكل عام الموسيقي د. محمد واصف وكتب نصوصه الزميل محمد جميل خضر، كاستهلال فنيٍّ جماليٍّ أخاذ للمنتدى الذي حظي برعاية ملكية سامية.
عبر حوارية بين "سنابل" الطفلة/ الأمل/ المستقبل، وأمها الأرض/ الخصب/ الحضن/ الحدب، وعبر تداخل هذه الحوارية مع دور سرديّ للتاريخ، مرّ الأوبريت على مراحل تطور الزراعة في الأردن على وجه الخصوص، والبلدان العربية المحيطة بنا على وجه العموم.
بدءاً من الأنباط (خصوصاً الحارث الرابع)، وصولاً إلى عهد الهاشميين وما أغدقوه على الأرض وأهلها من تحفيز لحرث الحقول وإنبات الزرع ونشر الخضرة والوفرة، جاعلين الزراعة في مقدمة أولوية المعادلة القائمة على أن الإنسان هو محور النماء وعنوان الخطط ورأس مال ثروة الوطن: "الإنسان أغلى ما نملك".
هذا وغيره مما صاغه الأوبريت وعرضه واستعرضه وفق سياقٍ فنيٍّ بصريٍّ أدائيٍّ متنوّع الخيارات متقن التحضير (ديكورات ضخمة، إضاءة مدروسة، تقنيات لافتة وتراتبية ذات دلالات):
"(يدخل الرجل/ التاريخ/ الراوي (أدى الطالب مجد عفيفي الدور بإقناع) منصة العرض من بوابة الزمن الماضي. المثقل بالعتاقة، ولكن أيضاً المحمّل بذور عطاء متجدد. يقف شامخاً بزيّه متعدد المرجعيات مع تواشيح واضحة لجهة عصر الأنباط الزاهي. يتوجه نحو الحضور بنظره وإحساسه وعزيمة فعله وصوته وتعابيره. يهتف بصوت عميق قائلاً):
-أنا التاريخ...
في جعبتي ذكريات وأحداث وأشجان.. أممٌ مرّت من هنا.. حضارات وقادة وملوك وشعوب..
في زمن الأنباط، وعندما كان الحارث الرابع يبتسم، كانت تضحك معه أعالي الجبال.. في عهده الميمون كانت السهول والتلال تزهو.. لان الصخر له.. كبر الزيتون.. وامتدت كأغنيةٍ كرومُ العنب"..
بهذه اللغة وهذه المغايرة وهذا المنوال يعلن الأوبريت عن هوية جديدة لمفهوم حفلات الافتتاح.
ينوّع في خياراته بين الأداء التمثيلي مرّة، والغنائيّ في أخرى (شارك الفنان متعب السقار بأغنية، وكذلك الفنانة غادة عباسي بأغنية أخرى).. بين الحوار المسنود إلى الرموز والدلالات، وبين عرض مادة فيلمية أرشيفية تعزز الكلام فوق المنصة:
"أنا التاريخ..
أنا الماضي والحاضر والمستقبل..
أنا سواعد الرجال الرجال.. تحنو عليهم نساؤهم الطيبات بزوادة الحقل ورغيف المواويل.. يجوسون حبّات الثرى.. يروون التِّلْمَ إثر التِّلم.. يهدرون بالمواويل.. يتحلّقون تحت وهج الشمس حول لقمة الكفاف.. محاطين ببركات الأرض وصلوات الأمهات...
(تدخل الأم (أدت دورها بحضور لافت الممثلة دلال فياض).. توقظ ابنتها من نومها)
-شقشق الفجر يُمّه.. اصحي لحقّي مدرستك..
(تستيقظ البنت (أدت دورها باقتدار الطالبة دعاء العدوان) كما لو أنها تعود للتو من رحلة تاريخية صاخبة)
-حلمت بالتاريخ يمه.. حكالي قصة الأنباط والأرض.
(تتحرك الأم/ الأرض نحو واجهة المنصة. تبدأ الترنيمة الكبرى حول الزرع والناس والأرض):
هيه يمه الأرض بتنادي
قوموا للحقل يللا يا ولادي
هاتوا معاكو الغزل كله
مين قال الأرض ما بدها غزل
مين قال الحرث بيحب الكسل
هاي زيتونتكو يمه
هاي التينة من أيام جد جدكو يمه
هاي الأرض إلكو يمه
رب السما يسقيها
يحيي عروق الزهر فيها
وانتوا الفاس لما يرعد فوق لحافها
انتو ديكها اللي بصوته بصحيها من غفوتها
انتو حقلتها وبقلتها وشتلتها وزنود عزوتها
يللا يمه يللا يمه
قوموا اطلعوا ما عاد فيها نوم
اتوضوا بحبات مطر ترقص بحوش الدار
قولوا لعين الشمس إحنا الزمن لو جار
قوموا لكروم البلد
سمعتها بغفوة صلاة الفجر بتطلب مدد
يمه الزرع زفة عريس الزين
مهر العروس
حواجة الولد يومن يتهنا ويومن يتحنا
ويومن يحمل ملايته ويتهجى أول حرف منا
يمه السنابل ذهب
يلمع في ليل العرب
يمه السنابل طرب".
تدفقية نصيّة يرعاها المشهد بمحموله كله، ويتداخل فيها الغناء مع الموسيقى مع هدير الأيام الحلوة لصناعة لحظة فارقة جعلت جمهور الحفل، وفي مقدمتهم سمو الأمير الحسن بن طلال، يصفقون عالياً للمعنى والربط والفكرة، فالقصة هي حلم الصبية "سنابل" والأوبريت هو تتويج لحلمها وأحلام الطفولة في وطن الوعد والعهد وميلاد سنبلة من حبوب سنبلة تجفُّ، تغدق على الأرض بعطائها وتملأ الوادي سنابل.
ومثلما صنع الأردنيون أبناء الحرّاثين، ورثة الحارث وحراس مجد الأنباط، مثلما صنعوا من إيناع الأرض وأقحوان البراري ودحنون الوعد والعهد والفداء وأبجدية الشيح والقيسوم، لغتهم الزراعية الخاصة بهم نباتاً وثروة حيوانية، فإن الأوبريت بذوبانه داخل هذا الفعل، وترسيخه وتكريسه وإلقاء الضوء عليه، صنع لحظته الخاصة به، فنّاً ساطعاً بانحيازه لخيار الفن كبوصلة ونقطة التقاء وجذوة معنى وجمالٍ وأثرٍ لا ينتهي.
في سياق متصل يوضح الموسيقي د. محمد واصف أن تصديه لإخراج الأوبريت يؤكد مسألة تداخل الفنون والعلاقة العضوية بينها، ذاهباً إلى أن خبرته الموسيقية تلحيناً وعزفاً وتوزيعاً ومعارف أكاديمية، أتاحت له استبصار الأفق الجماليّ الممكن داخل مساحات النص، إضافة لما منحته هذه الخصوصية من رؤية للمنصة وتناوبات الفعل فوقها ما بين النص المنطوق والآخر المُغنّى.
واصف الذي سبق له إخراج سبعة أوبريتات قبل أوبريت "سنابل"، يرى أن قيم الجمال واحدة، وهي تتعانق أساساً مع قيم الخير والأخلاق والبناء والدافعية الإيجابية داخل الإنسان وإنسانيته. من هنا جاءت، كما يقول، لحظة التقاط قيمة الزراعة كفعل إنسانيٍّ خلاق وخيّر ومثمر ومرتبط بالمستقبل: "زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون".
واصف أستاذ الموسيقى في كلية فنون وتصميم الجامعة الأردنية، يشير هنا إلى أهمية تبني وزير الزراعة د. خالد حنيفات مشروع الأوبريت، و"شجاعة معالي الوزير في دعم الفكرة ملتقطاً ما تحتضنه من لحظة تاريخية فارقة بربط العلوم بالفنون وإنهاء القطيعة بين القيمتيْن الإنسانيتيْن المهمتيْن".
تلخص مداخلة واصف كما يتجلى بيّناً، الشروط الموضوعية التي يحتاجها تبني الفن وفعل الجمال كمعادل للرصانة الثقيلة أحياناً في حفلات الافتتاح من كلمات وترحيبات وتقاليد نمطية بدأت تنتابها الرتابة والتكرار. ومن تلك الشروط التي يقترب واصف منها: النص البليغ، الرؤية الإخراجية الجمالية واسعة الطيف، الإرادة الإدارية الشجاعة المنفتحة على الجديد الراغبة بالتجديد.
يقول واصف: "لفتة ذكية من وزيرٍ تُعنى وزارته بالمزارع والمحصول والاستيراد والتصدير. مشغولٌ بما يعانيه قطاعنا الزراعي من همومٍ وجدلٍ وتجاذبات، أن يتبنى في مؤتمرٍ دوليٍّ تشارك فيه عشرات الدول والمنظمات، عرضاً فنياً يشكل استهلالاً لفعاليات هذه المناسبة الحساسة وافتتاحاً مدهشاً لجلساتها".
وحول الأوبريت يورد واصف أن فكرة العمل استندت إلى "حلم سنابل لتتوالى لوحات الأوبريت بعد ذلك بتسلسلٍ وسلاسةٍ جاذبةٍ لعقل المتلقي محترمةٍ لذكائه ولمّاحيته".
واصف أشاد إلى ذلك بـ"النص النثري التاريخي الذي ربط الماضي بالحاضر والمستقبل".
كما أثنى على كلمات الأغنيتيْن اللتيْن ألّفهما الشاعر فهد رمضان. وحول الرؤية التي اعتمدها بتلحين القصيدتيْن وتوزيع الموسيقى المصاحبة للغناء، يبيّن واصف أنه اعتمد على "جمل عصرية هادئة تقوم على معادلة السهل الممتنع وبما يصل الأسماع بدون تعقيد. فقد أردت وضوحاً يتقاطع مع وضوح الفأس في يد المزارع، ووضوح الأرض في عطائها وخصبها وخضرة سهولها".
واصف يختتم مداخلته بالقول: "ها هو الحارث الرابع يدّلنا من جديد على دروب الماء والخضرة والبناء، ويلغي المسافة الوهمية بين الفنون وبين العلوم".
قدمت فرقة الحركات الأدائية بإشراف وتدريب ربى ظاهر لوحات الرقص والفرح في الأوبريت. الديكور والإضاءة من تصميم وتنفيذ عادل الشريف. التعليق الصوتي لطارق حامد المتميز عادة بصوته العميق وحساسيته الخبيرة.