الشوبكي: في بلاد العم سام
مدار الساعة ـ نشر في 2018/05/22 الساعة 01:07
راكـان نـواف الشوبكـي
في زيارة منظمة من خلال وزارة الخارجية الأمريكية، لاكتشاف التجربة الامريكية في مكافحة التطرّف العنيف وحماية الشباب والتي استمرت ما يقارب الشهر وتنقلنا خلالها من شرق الولايات المتحدة الامريكية الى غربها ثم جنوبها لنعود الى شمالها الشرقي وقد بدأت الزيارة بالعاصمة الأمريكية واشنطن وهي مدينة جميلة ومنظمة ومن ثم (فرجينيا ، ماريلاند ، كالفورنيا، تكساس) وانتهت في مدينة ريادة الأعمال والتعليم الأكاديمي العالي مدينة بوسطن أو ما تسمى بــ(نيو انجلند) التابعة لــولاية ماساتشيوستس.
زرنا في هذه الولايات العديد من المؤسسات الحكومية الرسمية والتقينا مع المسؤولين فيها وايضا عدد من منظمات المجتمع المدني ، هذه الزيارة المتنوعة بكل تفاصيلها أتاحت لنا الفرصة لأن نرى امريكا من الداخل ونفهم الكثير من الأمور عن بلاد العم سام وتركيبتها المتنوعة وكيف يشتغل نظامها وكيف يواجه المجتمع مشاكله بالذات التطرّف والعنف.
وهذه المعرفة المباشرة مهمة فقد تقرأ عن امريكا الكثير وقد تسمع من الذين يحبونها أو يكرهونها وأيضاً من الذين يحرضون ضدها، لكن أن تكتشف امريكا من الداخل بنفسك فستجد الأمر مختلفاً؛ نوعاً ما وستكتشف الحياة الأمريكية كما هي وبالذات إن كانت زيارتك مرتبطة بالسياسة والحكومة والمجتمع المدني وشملت اكثر من ولاية، وما يساعدك على تفحص الواقع التواصل المباشر مع مسؤولين وناشطين مدنيين ومثقفين ناهيك أنك تتحرك ومعك شركاء من دول عربية أخرى، ومن خلال الحوار والنقاشات والعصف الذهني والتبادل وآليات التواصل المرنة والراقية ستمتلك مفاتيح كثيرة لفهم امريكا وهذا يسهم لا محالة في تقييم الكثير من الأمور وربما ينتابك احساس كم من التظليل مورس على وعينا بالذات من منتجي الكراهية ضد الذات وضد الآخر.
يعتقد الكثير أن امريكا غير مفهومة وتركيبة معقدة لا يمكن استيعابها وهي كذلك، لكنها تركيبة قابلة للفهم إن تحيزت بإنسانيتك وفرديتك وتذكرت بأن امريكا الداخل مختلفة عن تعقيدات الصراع الدولي. فالبعض قد يكره امريكا ويندفع ضدها بالتطرف وحتى بالعنف ويحملها كل مشاكل العالم والواقع أنك بمجرد أن تضع قدمك في هذه الارض وتبدأ بالاحتكاك ستجد نفسك جزء منها ومن إنسانها، فامريكا أرض مشاع لكل إنسان في الأرض وهي أرض الهجرة وهذا ما يجعلك لا تشعر بالغربة فيها ، ففيها عرب ومسلمين كثر وأين ما تحركت قد يكون لك قريب فيها.
قد نختلف مع امريكا في أمور كثيرة إلا أن امريكا تشكل نموذج فريد وفرادتها أنها أرض مفتوحة ومجتمع متعدد ومتقدم ، وفيها حركة الدولة والمجتمع حيوية وهي لا تتوقف حالة البحث عن كل جديد وتطوير ما هو موجود ، فـتبدو كذات متحررة كل طموحها بناء القوة من أجل السعادة وهذا ينتج أخطاء كثيرة ، وميزة امريكا أنها تعترف بأخطائها في الداخل بشكل دائم بهدف التصحيح، كما أن سياستها الخارجية قابلة للتحول والتغير، وميزة امريكا ايضاً في بحثها عن التغيير داخلياً أنها تبني قوتها من أجل المواطن ، ويلعب المواطن الفرد دوراً حيوياُ في السياسة الأمريكية على المستوى الداخلي لذلك سنجد المجتمع المدني بكافة مظاهره وشبكاته المعقدة والمتعددة له السطوة والقوة والتأثير وبناء التغيير.
وملاحظة مهمة فعندما تفكر امريكا بالعالم فإنها تريده أن يكون على صورتها باعتبار أن تركيبتها الديموغرافية وخلاصة تجربتها هي محصلة بني الانسان في هذه الأرض فامريكا فعليا معولمة من الداخل وربما هذه مبالغة لكن الواقع يحكي انك في امريكا ستجد هوية معاصرة يتفاعل داخلها الأوروبي والعربي والافريقي والاسيوي واللاتيني والروسي .. الخ وجميعهم يسعون ليندمجون في بيئة اجتماعية وسياسية تسعى من اجل التوافق والتكامل والانسجام ويركزون على التنمية المتطورة والمستدامة في كافة المجالات ، المعادلة بكافة مدخلاتها ومخرجاتها تخلق مشاكل كثيرة في الداخل الأمريكي ومشاكل مع العالم الخارجي لكن ما يميز امريكا أن كل شيء قابل للتصحيح ، لذلك النموذج الامريكي يتقدم ولا يتأخر ولا يمكن لامريكا ان تسقط كما يبشر البعض فهي ارض حيّة تصحح اخطاءها باستمرار وتسعى وراء الاختراع والابداع بلا توقف والفرد فيها هو الحاكم والمحكوم ومحور الدولة والمجتمع وحركة الأفراد الكلية تخلق حراك حيوي لا يمكنه أن يتوقف أو يسقط بالذات انه محكوم بالقانون والوعي المدني وفي حالة تحول مستمر من أجل تحسين الحياة .
امريكا بلاد متواضعة في الداخل ومن تجربتي، في هذا البرنامج التقيت بامريكيين متعددين ومتنوعين من حيث الأصول الحضارية القادمين منها ومن حيث العرق والاهتمامات والمصالح فوجدتهم في الغالب العام يشرحون تجاربهم ببساطة وتلقائية وما اذهلني انهم كانوا يطلبون منا مساعدتهم في فهم مشاكلهم الاجتماعية وان نقترح عليهم ما نراه من حلول لمشاكلهم ، وهذا يدل على بحثهم المتواصل عن التصحيح، كما أن الشعب الأمريكي شعب لطيف وراقي وعنده القدرة على تلبية المساعدة إن استطاع ذلك وتجده مستعد في أي وقت تطلبه المساعدة ، أتذكر ما قاله لي صديقي القادم من دولة شقيقة ألا ترى أن امريكا لديها سحر عظيم وبمجرد أن تضع قدميك فيها وتلتقي بأول شخص او جماعة ستجد نفسك جزء لا يتجزأ منها بكل سلبياتها وايجابياتها، وأن هذا البلد بكل أخطائه لا يمكن لفرد طبيعي إلا أن يحبه بمجرد أن يتعايش معه! وهو لم يخطئ بذلك .
هذه هي امريكا كل من يصل إليها يعتقد انه ينتمي إليها لإنها دولة المهاجرين القادمين من كل أنحاء العالم الى هذه الارض الجديدة التي يراها الأمريكي المعتدل بأنها أرض لكل انسان وقد تجد مسؤولين يدافعون عن المهاجرين حتى غير الشرعيين الى هذه الأرض وهو لا يملك هوية ويتعامل معه باعتباره امريكي وعندما تسأله لماذا فهذا مخالف للقانون؟! فيجيب عليك طالما ان هذا الشخص لا يخترق القانون وملتزم بأداب الحياة العامة فله الحق الكامل بأن يعيش في امريكا ويصبح مواطناً أمريكياً واذا لم نقبل هذه الفكرة فإننا نخون امريكا فهذه بلاد جديدة وكلنا مهاجرون إليها ومن حق أي إنسان أن يأتي ويعيش فيها ، وعندما تسأله عن الرئيس ترمب وتشدده بالتعامل مع قوانين الهجرة يجيب انه لا يتفق معه كلياً.
امريكا من الداخل بكافة ولاياتها تعيش تجاربها الخاصة ولا تهتم للشؤون الخارجية، وامريكا من الداخل تبحث عن الانسجام والتوافق والتواصل ومواجهة ومكافحة كل التهديدات الداخلية والخارجية ، ولو رأيت أن كل امريكي مهما اعترض على سياسات حكومة امريكا الفدرالية أو الحكومة المحلية ستجد أن الجميع متفقين على حب امريكا والعمل من اجل الفرد لتكون امريكا عظيمة ويريدوها أن تكون نموذجاً وتبقى أرض الاحلام والسلام. وسنجد الكثير من الامريكان لديهم اعتراضات وغضب حول السياسات المختلفة التي ينتج عنها مظالم تصيب بعض الافراد لكن الجميع يلتزمون بالقانون ويحترمونه ، صحيح بأن هناك أقليات متطرفة الا أنها لا تشكل ظاهرة عامة، لكن الامريكان أنفسهم يرونها خطراً كبيراً ، وتعمل قوة فاعلة داخل الدولة والمجتمع لمكافحة هذا التطرف ومواجهته عبر استراتيجيات ناعمة وفرض سلطة القانون .
وخطر الارهاب والتطرف العنيف حالة اجماع واتفاق جماعي بأنه من الواجب مواجهته ومكافحته والتصدي له مسؤولية الدولة والمجتمع ، وتتبع امريكا سياسات متنوعة في هذا الجانب وتحتاج الى تفصيل ربما اكتب عنها لاحقا. وعندما تقول للمسؤول الامريكي بأن امريكا هي سبب التطرف والارهاب في العديد من الاماكن في العالم وهذا بسبب حروبها المنتشرة في العالم فيجيب أن ظاهرة الارهاب معقدة ونحن نعاني منها في الداخل الامريكي كأي دولة ومن الجهل تجاهل استغلال الدور العالمي في التحريض لتنمية الارهاب، وحجم المسؤوليات الامريكية كبيرة وهي تسعى دوماً للتعاون مع الجميع لمكافحة التطرّف ومن حق الولايات المتحدة الامريكية أن تحارب الارهاب في جميع انحاء العالم لتحمي مواطنين هذه الدول ولتحمي نفسها حتى لا يصل الارهاب اليها ، وهناك مبالغ طائلة ترصد من أجل هذه الغاية ، وقد تختلف طرق مكافحة الارهاب والتطرف العنيف في امريكا سواء من قبل الحكومة او منظمات المجتمع المدني ، وبرنامجنا الذي كنا فيه اكبر دليل خصوصاً أنه لم يكن بيننا اي امريكي فقد كنا عرباً فقط .
امريكا بلاد الحرية ، الجميع ينتقد الصحيح والخطأ ويتبادلون الاراء باريحية كاملة ، فحرية التعبير مقدسة والعنف الغير الشرعي الذي ينتجه الافراد والجماعات يمثل جريمة كبرى يواجه بقسوة من قبل المؤسسات الرسمية وينتفض المجتمع لمواجهة هذا العنف ، ويقف بكل قوة أمام أخطار مالكي سلطة القهر والقسر الشرعية ، فمثلاً أخطاء الشرطة ورجال انفاذ القانون بحق المواطنين لا يتم التساهل معها ويتم اخضاع من اخطئ للقانون ومعاقبته ان ثبت ذلك. وهذه اللمحة الأولى عن أمريكا فهي فعلا دولة تستحق الاحترام .
وبعد هذا كله ، ما أعجبني وأشعرني بالفخر بين الزملاء العرب المشاركين وأمام الأمريكان من مسؤولين ومواطنين ، أنني قد وجدت العديد من النماذج الأمريكية والتي نتغنى بها موجودة في بلدي التي قطعنا فيها أشواط كثيرة في التنمية وبناء الحياة الحرة للمواطنين وتجربتنا في مكافحة الارهاب والتطرّف نموذجاً يحتذى، ولدينا بالفعل نماذج قريبة ومتشابهة مع امريكا .
تمثل قيادة جلالة سيدنا الملك عبدالله الثاني المنفتحة والباحثة دوما عن التقدم وما ينفع المواطن الأردني من اهم المحفزات التي تدفع المجتمع الأردني الى العصرنة وبناء الحياة بالاستفادة من تجربتنا التاريخية ومن الاخرين كالأمريكان . وكل هذا للنهوض بوطننا لم يأتِ الا بالجهود الكبيرة وبالخبرات المحلية والتلاقح مع تجارب العالم المتقدم والذي تمثل امريكا رأس الهرم فيه. وما يجعل امريكا دولة قوية هو الالتزام بالقانون وهذا الامر دوماً ما تركز عليه القيادة الاردنية وأتذكر ما ناقشه جلالة الملك في اوراقه النقاشية بخصوص سيادة القانون وطلب من الأردنين ساسةً وشعب أن يطبقوه ويلتزموا فيه ، وايضا ما يطلبه جلالته من التزام المواطن الاردني ومشاركته بالادارة المحلية لاتخاذ قرارت من شأنها النهوض بمستوى الوطن والمواطن وليكون المواطن هو اساس الحكم فهو ايضا مطبق في امريكا، وايضا تعامل الشرطة الأردنية مع المواطن الأردني بأفضل الطرق التي ترسخ معاني الشرطة المجتمعية والتي تساهم في بناء جسور التعاون بين المواطن ورجل الشرطة هو ايضا مطبق في امريكا وتحديداً في مدينة بوسطن ، وكل هذا اذهلني وجعلني اتسائل لماذا ليس لدينا الارادة الحقيقية كشعب ومسؤولين لتطبيق ما يقوله جلالة الملك فهذا كله مطبق في اعظم دولة في العالم وهي امريكا التي ننظر اليها كأرض الديمقراطية والحريات والاحلام ونحلم بأن نكون مثلها !! لذلك يجب أن نقف بجانب جلالة الملك الذي يطالب وينادي المسؤولين والشعب الأردني ليلاً نهاراً بالتطوير والنهوض بوطننا لتوفير ابسط اشكال العدل والمساواة والعيش الكريم للمواطن .
بالنهاية هذه التجربة الفريدة كانت مكسباً كبيراً لي لتعلم ما هو جديد وما يمكن تطبيقه ونقله الى بلدي الحبيب الأردن ، فكل الشكر الى حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة بوزارة الخارجية الأمريكية ، التي اتاحت لنا هذه الفرصة الرائعة ، فالولايات المتحدة الامريكية لطالما كانت دائماً الحليف والصديق القوي للأردن والجدير بالثقة طيلة السبعة عقود الماضية ، مع امنياتي الدائمة باستمرار هذه العلاقة القوية بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم .
مدار الساعة ـ نشر في 2018/05/22 الساعة 01:07