صناعة القلق
لا شيء يشغل الشارع الأردني هذه الأيام أكثر من الحديث عن مصير أموال الضمان الاجتماعي. الأردنيون الذين وضعوا اقتطاعاتهم في الصندوق الذي تأسس منذ ثمانينيات القرن الماضي لتنظيم وضبط وتسلم اقتطاعات المشتركين والحفاظ عليها وحمايتها واستثمارها لحساب عشرات آلاف المشتركين الذين عقدوا الكثير من الآمال على العوائد التي سيحصلون عليها بعد انتهاء خدماتهم يواجهون سيلا من القصص والتحليلات والمخاوف التي أثارتها بعض التسريبات والإجراءات الحكومية الأخيرة.
الحديث عن استشارة الحكومة لديوان التشريع حول إمكانية قيام الحكومة بإدارة وتوظيف أموال الصندوق الاستثماري للضمان ودخول اللجان النيابية لدائرة النقاش وحديث بعض النواب عن قصص لممارسات وأوجه استخدام ورواتب تقاضاها بعض الأشخاص المرتبطين بأصحاب نفوذ، إضافة الى تصريحات رئيس صندوق استثمار أموال الضمان السابق عن اقتراض الحكومة السابقة مبلغ ملياري دينار كانت عوامل كافية لإثارة الشارع وتوليد عشرات الأسئلة حول واقع ومستقبل الصندوق وخلق حالة من القلق بين جموع المشتركين في الصندوق وبقية شرائح المجتمع.
استجابات وشروحات الحكومة الواردة على ألسنة الوزراء والمسؤولين لم تكن كافية لتبديد الشكوك وطمأنة الناس على مصير الأموال ومستقبل حصيلة أتعاب عشرات آلاف المشتركين.. القلق الذي يساور المتقاعدين والعاملين لا يأتي من فكرة حصول الحكومة على السند القانوني لاستثمار هذه الأموال بمقدار ما هو مرتبط بالقصص والروايات التي يتداولها الناشطون والتصريحات التي يقوم بها بعض النواب والمديرون والرؤساء السابقون لصندوق الاستثمار.
انخفاض المساعدات الخارجية الممنوحة للأردن ووجود فجوة واسعة بين الإيرادات والنفقات وتقلص فرص الاقتراض الخارجي؛ كلها عوامل مهمة في تغذية القلق الشعبي. جرأة بعض الحكومات على الإنفاق خارج قانون الموازنة واستعداد البعض للاقتراض من دون الالتفات الى قدرة البلاد على السداد أو وجود ما يشير الى إمكانية النهوض الاقتصادي الذي يجري الحديث عنه والتبشير به منذ سنوات؛ كلها أمور مهمة في فهم سيكولوجية واتجاهات الناس نحو التصريحات والتطمينات التي تحاول الحكومة بثها بين الناس من وقت لآخر.
القلق الذي أثير حول أموال الضمان جزء من حالة عامة تجتاح المجتمع العربي والشارع الأردني لأسباب وعوامل بعضها داخلي والآخر لأسباب خارجة على إرادة وتأثير من يعانون منه. بعض مشاعر القلق تتولد من الحروب والصراعات الإقليمية واستعداد بعض اللاعبين العرب للاستدارة باتجاهات تشكل خطورة على الهوية والتاريخ والقيم وربما الوجود والمستقبل لبعض الشعوب والبلدان والأرض العربية.
المواطن العربي الذي عانى وما يزال بطرق مباشرة وغير مباشرة من آثار الحروب والصراعات وما يقترن بها من خوف وقلق وشك وتوتر فقد ثقته بمن يديرون الشؤون العامة وأصبح جاهزا لتبني خططه الخاصة لحماية نفسه وعرضه وماله والخلاص من الأزمات التي قد تواجهه.
الإحساس الذي يتملك الأفراد وهم يقيمون أوضاعهم العامة لا يختلف كثيرا عما يشعر به الضحايا للجرائم والاعتداءات، فما إن يجري الحديث عن قضية ما حتى يتبارى الأفراد في سرد الوقائع والأمثلة التي تشير الى الانتهاكات التي ارتكبت بحقهم والاعتداءات التي وقعت على حقوقهم وعدد الحالات التي استمعوا فيها الى وعود لم تتحقق.
المقارنات التي يقيمها المواطنون بين تجاربهم وخبراتهم الإيجابية في مجتمعات وبلدان أوروبية وغربية عاشوا فيها إبان دراستهم أو عملهم وتجربتهم المعاشة في بلدهم تولد الكثير من الغضب والقهر والإحباط. استمرار سعي بعض المسؤولين لتجميل صورة الأوضاع يدفعهم لاختيار المقارنة مع مجتمعات وبيئات مجاورة أمر يعبر عن الاستهتار بحقوق المواطن ومسؤوليات الإدارة العامة.
توقف الناس عن القلق على مدخراتهم ومستقبلهم يستدعي أكثر من إطلالة المسؤول للإدلاء بتصريح بلغة إنشائية لا تستوعب الأسئلة وتتعامل مع مخاوف الأفراد ومصادر شكوكهم.
الغد