ماكس فيبر العربي وجُبّة التقليد
ما زال الإرث التقليدي العربي لمفهوم الدولة هو القائم، ثمّة محاولات للدمقرطة، وهناك ثورات قامت أتى بها الربيع العربي، وبقيت نهايتها غير محسومة بعد، وثمّة رغائب لدى بعض الحكام بتقديم وجبات إصلاحية مرحلية، وبعضهم استجاب للموجة الثورية، ثم تخلى عن التزاماته.
المسار العام للدولة العربية، والتي بدأت في المشرق العربي قبل مائة عام، منذ أسَّس فيصل بن الحسين دولته في دمشق عام 1918، وهي في مصر سابقةٌ على بلاد الهلال الخصيب، لكنها انتهت نهاياتٍ مشابهة، ويؤكد المسار العام أنها في وصفها دولة وطنية، كان أهم إنجازاتها إعلان الاستقلال، والذي لم تتبعه سياسات واضحة في البناء المؤسسي القانوني لمفهوم الدولة، فحلّت التنمية محل الديمقراطية، وحل الإصلاح والتعديلات الدستورية محل الثورة، وهكذا ولدت حالة جديدة، الغرض منها الإبقاء على ما هو موجود، وبصيغ تجميلية جديدة.
تظل الصيغ التجميلية دوماً مؤقتة، تزول بزوال مدة الصلاحية للمستحضر التجميلي الذي هدفه سياسياً إرضاء الغرب وتخدير الجماهير، والحصول على تطمينات البقاء. وفي هذا السياق، تطوّعت طبقة من المثقفين، في كل بلد عربي، لخدمة مشاريع التحول الديموقراطي، أو المسار الثوري، أو الإصلاحي الحكومي. وقد فشلت جميعها في إحداث النموذج المنشود، أو التنمية الحقيقية.
والسؤال اليوم بعد إخفاق عام وجلي، ونجاح جزئي لبعض مطالب الجمهور في زمن الثورات العربية، هل المسار العربي مشابه لما حدث غربياً قبل قرون، وكيف بدأ الإصلاح الحقيقي في الغرب، وهل
ما حدث عربياً يمكن أن يؤدي إلى عبورٍ آمن للحكم الديموقراطي؟ أم أننا سنشهد موجة أخرى من الربيع العربي، وأن ما حدث صدمة أولى؟. في الإجابة على هذا، من المهم التوقف عند الحالة الفرنسية نموذجاً للتنوير والإصلاح؛ ففرنسا النابليونية كانت في بداية القرن التاسع عشر تمثل المثل الإيجابي للغرب المتحرّر، وكانت أوروبا الأرستقراطية تمثل المثل السلبي. وآنذاك شكلت المقارنة بين السلبي والإيجابي أساس بلورة الفكر السياسي الحديث؛ لأنها مقارنة بين الحداثة والتقليد، بين الديمقراطية والاستبداد، وبين الحرية والعبودية.
ولج الألماني ماكس فيبر (1860 - 1920)، أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث ودراسة الإدارة العامة في مؤسسات الدولة، وهو من جاء بتعريف البيروقراطية، لتحليل إمكانات
الإصلاح من هذه المقارنة، فعبرها تمكّن من الوصول إلى مفهوم الدولة الحديثة التي يرى أن مظاهر الحداثة، تتجلى فيها بأربعة ميادين: الجيش، والإدارة، والاقتصاد، والتعليم. والمهم في فكر فيبر الإصلاحي رؤيته لإصلاح الجيش؛ إذ تتمثل مظاهر الحداثة في الجيش في أنه جيش وطني شعبي؛ لأن الدولة الحديثة وضعت حداً للجندي المحترف والمرتزق.
ولنتذكّر هنا كيف حذّر ميكيافيللي من مخاطر الارتزاق والاحتراف في كتاب "الأمير"، ففي الجيش الحديث، تحل الديمقراطية محل الطاعة العمياء، وتتم الترقية على أساس الكفاءة، لا على أساس الاعتبارات المجانية. وبانتشار العقلانية في الجيش، فسر الجنرال الألماني، كارل فيليب كلاوزوفيتش، في أوائل القرن الـتاسع عشر انتصار نابليون على الجيوش التقليدية الأوروبية بإدخاله العقلانية للجيش.
ويتوقف تحديث الإدارة عند فيبر على إصلاح إداري يقوم به جيش مدني هو البيروقراطية. وهذا ما دفع نابليون إلى تكوين بيروقراطية مؤهلة للقيام بتطبيق القوانين الجديدة. يقول ماكس فيبر: "مفهوم البيروقراطية يتفرع عن مفهوم الانضباط.. وتفوق البيروقراطية في مجال الإدارة كتفوق الآلة على العمل اليدوي". يتحكم العقل في الإدارة؛ لأن وظيفة البيروقراطية تطبيق العقلانية، وهكذا يتحكم التجريد والتعميم في تطبيق القانون؛ لكن دخول العقلانية عند فيبر لا يكفي في الجيش والإدارة فقط، بل يراها ضرورة للاقتصاد أيضاً، إذ يؤدي انتشار العقلانية في الجيش والإدارة إلى عقلنة الاقتصاد. ومن مظاهر هذه العقلنة رفع الإنتاج على حساب الاستهلاك، وتحرير المنتجين من القيود المفروضة عليهم، والقضاء على المؤسسات الاقتصادية العتيقة، كالجمعيات المهنية وغيرها. ولكي تكون العقلانية شاملةً في الاقتصاد والإدارة والجيش، يلزم تحديث التعليم وعقلنته.
كيف يتم ذلك؟ في التعليم، يرى فيبر في النموذج النابليوني خلاصاً نهائياً لحال التعليم المرتهن لسلطة الكنيسة، فنابليون وضع حداً لتبعية التعليم للكنيسة؛ إذ وحدّ لغة التلقين، كما اتجه إلى التكوين العلمي والتقني. وطبّق برنامج الموسوعيين في مجال التعليم. ومنذ ذاك الزمن، تعمق العقل في التعليم، وأعيد الاعتبار للأكاديمية الفرنسية التي أسسها عام 1635 رئيس الوزراء الكاردينال ريشيليو (1585-1642) في عهد لويس الثالث عشر. وكان رجل فرنسا المؤثر في السياستين، الخارجية والداخلية، وهو يُدرَّس اليوم في إطار الحديث عن دور الفرد في الدولة، كما يدرس نابليون أيضاً. وقد تمظهرت خلاصة التجربة الفرنسية في عقلنة التعليم والاقتصاد والجيش والإدارة، فمن خلالها يصبح الكل بنيةً متسقةً، تحكمها العلاقات العقلانية، أي دولة حديثة يسودها العقل فالدولة "الحديثة بصفة عامة هي مجموع أدوات العقلنة في كل دروب الحياة".
بهذه الصيغة، يتميز النموذج الفيبري للدولة الحديثة بمزايا التوحيد، والتجريد، والنظام، والفعالية. وتجد كل هذه المزايا تلخيصها في العقلانية باعتبارها مبدأ إيجابياً. وفي مقابل هذه المزايا، نجد الدولة التقليدية تقوم على خصائص: التعدد، والتجريبية، والعادات، والمجانية. وكلها خصائص تدل على غياب العقلانية وسيادة التقليد مبدأ سلبياً. ولكل ميزة من النموذج الحديث الإيجابي، ما يقابلها من النموذج التقليدي السلبي. هكذا وصل ماكس فيبر إلى تحديد نموذج الدولة الحديثة. وبهذه الصيغة "الفيبرية"، يعود السؤال بالصيغة التالية: لماذا لم تظهر الدولة العقلانية الحديثة إلا في الغرب، ولم تظهر في المشرق العربي الذي يتمتع بتراثٍ قديم في مجال السلطنات والدول الإسلامية؟.
اليوم لا بدّ من إصلاح للجيش في الدول العربية، وتعزيز العقلانية في التعليم، ونفض الجهاز العريض من الموظفين وإحلال سياسات تقييم الأداء معياراً للاستمرار والبقاء، وتنضيد المصفوفة القيمية العمالية من جديد، وعلى أساس إتاحة الفرص العادلة للجميع، قبيل الحديث عن استقطاب الكفاءات، وقبل الحديث عن طرد المتأخرين في العمل بوصفهم عبئاً، فلا بد من تقييم عادل وحوافز وفرص متساوية في الخبرات والتعليم.
فوق هذا كله، لا بدّ من حضور للقانون، في الدول، مدنيةً كانت أو تقليدية ترغب البقاء في جُبة التقليد، والقانون يلزم الناس، ويعيدهم إلى تمثل المساواة والعدالة. لكن أن يقال للجمهور الحل بدولة مدنية، ونحن على ما نحن عليه من حضور للقبيلة والعشيرة وتوظيف للدين في الشأن اليومي، فهذا يصبح كالحرث في البحر؟
أخيراً لم يحضر ماكس فيبر العربي بعد، ولكي يأتي لا بدّ من سياق وتحول كبيرين، وحدوث للعقلانية واعتراف بالفشل والاعتذار من الشعوب؟ العربي الجديد