الاستثمار وحديث السراب

مدار الساعة ـ نشر في 2018/03/24 الساعة 23:41
يبدو أننا وفي غمرة حماسنا للاستثمار، وتشجيعه وجلبه إلى بلدنا، قد نسينا أهم عنصر من عناصر الاستثمار، وهو بناء الإنسان الذي كان أغلى ما نملك كما قال الراحل العظيم الحسين بن طلال طيب الله ثراه. لقد كان الإنسان الأردني، المؤهل والمدرب، والمزود بمنظومة كاملة من القيم الأخلاقية والمهنية، هو العنصر الأول من عناصر ثروتنا الوطنية، التي بنت أولاً منظومة تعليمية كنا نفاخر بها، وصارت نموذجاً يقتدى في المنطقة، بل لقد نافست على المواقع الأولى على المستوى العالمي، مما جعل المعلم الأردني عنصراً مطلوباً تسعى إلى استقطابه الكثير من الدول، لذلك يصح القول بأننا نحن الذين بنينا النظم التعليمية في الكثير من دول المنطقة. ومثلما بنى الإنسان الأردني، المؤهل والمدرب والمحصن بالمنظومة الأخلاقية نظامنا التعليمي، الذي صار نموذجاً ومثالاً، فإن هذا الإنسان هو الذي بنى نظامنا الصحي الذي صار هو الآخر مضرب المثل، مثلما صار مصدراً من مصادر ثروتنا الوطنية مثل التعليم، وصار الأطباء والمعلمين الأردنيين من أهم مصادر تزويد الموازنة العامة للدولة الأردنية بمواردها، مما يؤكد مقولة أن الإنسان هو أغلى ما نملك، وأنه رأس مالنا الحقيقي، فهذا الإنسان هو أيضاً الذي بنى الإدارة العامة الأردنية، التي كانت تتصف بالإنتاجية والحاكمية وبالنزاهة، وبالشفافية والمحكومة بمبدأ تكافؤ الفرص، فصارت هي الأخرى نموذجاً يحتذى، وصار الإداري الأردني مطلوب مثله مثل المعلم والطبيب الأردنيان، ولذلك يصح القول أنه مثلما بنى الإنسان الأردني النظم التعليمية والصحية في الكثير من دول المنطقة، فإنه أيضاً ساهم في بناء النظم الإدارية لهذه الدول، وهكذا صار الإداري الأردني مصدراً من مصادر الدخل الوطني. ومثل المعلمون والأطباء والإداريون الأردنيون، كان العمال الأردنيون المهرة يغطون حاجة السوق الوطني، ثم يلبون حاجة الكثير من أسواق المنطقة والعالم، كان ذلك قبل أن تظلنا أزمان صارت العمالة الوافدة تطرد العمالة الأردنية حتى من سوق العمل الأردني، فما السر وراء هذا الإنقلاب، بل هذا الخراب الذي صرنا نشكو منه، ليس في مجال العمالة اليدوية، فقد امتدت الشكوى إلى التعليم ومخرجاته والطب وممارساته والإدارة الأردنية التي أصابها الكثير من مظاهر الوهن والخراب الذي يتراوح بين الروتين وتفشي الرشوة وسائر مظاهر الفساد؟ إن الإجابة على هذا السؤال تكمن بضرورة اعترافنا بأننا أهملنا مؤسسات بناء الإنسان، وأدوات هذا البناء، وخاصة على الصعيد القيمي. وأول هذا الذي أهملناه مؤسسة الأسرة، ودورها في تنشئة الإنسان، وبناء منظومته القيمية، فجل أطفال الأردن ينشؤون ومنذ سنوات طويلة على أيدي الخادمات المستوردات نشأة ليس فيها أي قيمة من قيم الإنتاج والعطاء بل القيم الأخلاقية ومنها القيم التي تقدس العمل وأخلاقياته. لم يتوقف الخراب الذي أصاب أسرنا على أنها أوكلت تنشئة أبنائها إلى الخادمات المستوردات، بل لقد أصاب الوهن كل أسس بناء هذه الأسر نفسها، بدليل أننا في مقدمة الدول من حيث نسبة الطلاق الرسمي، وأكثر منه نسبة الطلاق العاطفي الذي يجعل من الزوجين غريبين يسكنان فندقاً واحداً، وأية أسرة في مثل هذه الظروف لن تنتج للمجتمع أفراداً أسوياء قادرين على الإنتاج والبناء. ولا يقل الخراب الذي أصاب المؤسسة الثانية من مؤسسات بناء الإنسان وهي المدرسة، عن الخراب الذي أصاب الأسرة التي هي المؤسسة الأولى في هذا البناء، فمدارسنا فوق أنها تفتقر إلى المباني والمرافق المؤهلة لبناء الإنسان المؤهل والمدرب، فإن واقع معلمنا الأردني صار مزرياً، فهذا المعلم يعاني الأمرين في واقعه الاقتصادي، وهو الأمر الذي يصرفه عن التفكير في بناء الجيل، إلى التفكير في البحث عن مصادر دخل رديفة في كثير من الأحيان، وهكذا تعاظمت شكوانا من التعليم ومخرجاته، وأهمها مستوى وسوية الإنسان الذي هو هدف التعليم وأهم مخرجاته. وإذا كان واقع المعلم الأردني يشغله في كثير من الأحيان عن القيام بدوره في بناء الإنسان ومنظومته القيمية، فإن واقع الإمام والواعظ هو الآخر لا يقل سواء عن واقع المعلم، لذلك نستطيع القول أن دور المسجد تعطل هو الآخر في بناء الإنسان الأردني خاصةً على الصعيد القيمي. أما ثالثة الأثافي كما قالت العرب فهو دور الثقافة ومؤسساتها في بلدنا، ابتداءً من وزارة الثقافة التي لا تملك من أدوات عملها إلا رواتب موظفيها، وما يضمن استمرار بقائها دون أن يكون لديها دوراً في بناء الإنسان الأردني ومنظومته القيمية، فليس لدينا أسرة مسرح، وليس لدينا فرقة فنون شعبية، وليس لدينا شيئاً مما يؤهل وزارة الثقافة وسائر مؤسساتنا الثقافية للقيام بدورها في بناء الإنسان الذي هو أغلى ما نملك، والصانع لكل الثروات لذلك فإن أي حديث عن جلب الاستثمارات سيظل حديث عن السراب أن لم يسبقه حديث عن بناء الإنسان صانع الاستثمار ومؤسسات بناء هذا الإنسان. الرأي
مدار الساعة ـ نشر في 2018/03/24 الساعة 23:41