بطل لا يموت!
مدار الساعة ـ نشر في 2018/03/11 الساعة 01:12
-1-
لا أستطيع في يوم المرأة ألا أفكر فيها، هي تحديدا دون كل النساء، ففيها تتجسد كل النساء، فهي حواء الأولى والأخيرة التي لا مثيل لها، ولا يمكن استبدالها، وهي كذلك ليس في حياتي فقط، بل في حياة كل الرجال! لو علم الشباب والشابات الذين لم يزالوا يتمتعون بوجودها في حياتهم، لحثوا على رؤوسهم التراب إن قالوا لها: أف! اسألوا أيها الصغار ممن وخط الشيب قلوبهم؟، وليس رؤوسهم فقط، ماذا تعني هذه المخلوقة العجيبة، قبل أن ترفعوا أصواتكم في حضرتها؟!
-2-
كان سقف غرفة الزينكو يتمتع بقدر كبير من الثقوب التي تسمح لقطرات المطر بالدلف، وكان يتعين على الأم أن تجمع هذه القطرات في أوان مختلفة حتى لا تبتل الغرفة، ويذكر الفتى إن المطر الساحلي كان يستمر أحيانا أياما متواصلة.. ولكم كانت الأم تشقى بهذا المطر حيث كانت المياه تغمر ساحة المنزل وتهدد الغرفتين بالغرق، ولكم رأى الفتى والدته وهي تخرج تحت المطر الشديد لفتح مصرف الماء للتخلص مما يتجمع في ساحة البيت..! عند هذا الحد، سمع الفتى الذي كان يبحلق في سقف الزينكو جلبة في الخارج، لم يكن موقنا مما يحدث، لكنه توقعه، خرج من الغرفة، ورغم العتمة الشديدة التي كانت تلف المكان، إلا أن الأضواء البعيدة القادمة من الشارع الذي يفصل المخيم عن المدينة، بينت له شبح الوالدة وهي تجهد في فتح مصرف الماء، من الجهة المقابلة للباب، كي تتخلص من ماء المطر الذي بدأ يكون بحيرة صغيرة في باحة البيت، كانت الوالدة مبللة بالكامل، انحنى كي يساعدها بفتح المصرف اللعين، اعتدلت قامتها، رأت وجهه الدامع ذا العينين الحمراوتين.. سألته: -لسه ما نمت يمه. -لسه يمه! احتضنها، ومسح بيده حبات الماء عن جبينها، وحين أضاء البرق وجهها المتعب، لا يدري ما الذي حصل على وجه بالتحديد، لكنه رأى في لمحة سريعة كل الحكايات التي كانت تحكيها الوالدة عن سنوات الشقاء والتعب منذ تهدَّم البيت الأول على رؤوس الأسرة الصغيرة، ورحلتها الطويلة من الشيخ مونس، إلى مخيم طولكرم! عاد الفتى وأمه وقد التصقت ملابسهما بجسديهما الناحلين، كان المؤذن يدعو إلى صلاة الفجر، صلى الفتى صلاته، وعاد إلى حيث ينام بين الأواني التي تجمع حبات المطر المتساقطة من سقف الزينكو، بعد أن استقرت حبات المطر داخل عظامه وهو يحاول مساعدة أمه بفتح مصرف الماء، فلم يعد يدري وقد أخذ النعاس منه كل مأخذ، إن كانت حبات المطر تتكتك داخل الأواني أم داخله! كان وقت العيادة محدودا فلم يكن مسموحا لأحد أن يمرض خارج أوقات دوامها الرسمي، وشذ عن هذه القاعدة الداية الملحقة بالعيادة حيث كانت تخف إلى مساعدة النساء الحوامل على الولادة وكثيرا ما كانت تصل بعد فوات (أو خروج!) الأوان.. وبالنسبة لأم الفتى، فلا يذكر الفتى إنها دخلت مستشفى، فقد تمت معظم ولاداتها في البيت أو.. المزرعة!! نعم! فقد شهد الفتى إحدى هذه الولادات، حيث قضت الأم يومها في مساعدة زوجها في جني الخضار، وفي نهاية النهار، وضعت مولودتها بمعونة العاملات في المزارع المجاورة.. ولا يذكر الفتى ماذا كان مصير المولودة أعاشت أم كانت من ضمن الثلاثة عشر الراحلين!! -3- كيف ينسى الفتى هذا النص، حتى لو نشره ملايين المرات؟ وكل يوم، وليس في يوم المرأة فقط؟ ليس ثمة من كلام يقال، ففي حياة كل منا «بطل» لا يموت، حتى وهو يرقد في سرير من تراب، يستلهم منه ما يعين على مواصلة الحنين! الدستور
كان سقف غرفة الزينكو يتمتع بقدر كبير من الثقوب التي تسمح لقطرات المطر بالدلف، وكان يتعين على الأم أن تجمع هذه القطرات في أوان مختلفة حتى لا تبتل الغرفة، ويذكر الفتى إن المطر الساحلي كان يستمر أحيانا أياما متواصلة.. ولكم كانت الأم تشقى بهذا المطر حيث كانت المياه تغمر ساحة المنزل وتهدد الغرفتين بالغرق، ولكم رأى الفتى والدته وهي تخرج تحت المطر الشديد لفتح مصرف الماء للتخلص مما يتجمع في ساحة البيت..! عند هذا الحد، سمع الفتى الذي كان يبحلق في سقف الزينكو جلبة في الخارج، لم يكن موقنا مما يحدث، لكنه توقعه، خرج من الغرفة، ورغم العتمة الشديدة التي كانت تلف المكان، إلا أن الأضواء البعيدة القادمة من الشارع الذي يفصل المخيم عن المدينة، بينت له شبح الوالدة وهي تجهد في فتح مصرف الماء، من الجهة المقابلة للباب، كي تتخلص من ماء المطر الذي بدأ يكون بحيرة صغيرة في باحة البيت، كانت الوالدة مبللة بالكامل، انحنى كي يساعدها بفتح المصرف اللعين، اعتدلت قامتها، رأت وجهه الدامع ذا العينين الحمراوتين.. سألته: -لسه ما نمت يمه. -لسه يمه! احتضنها، ومسح بيده حبات الماء عن جبينها، وحين أضاء البرق وجهها المتعب، لا يدري ما الذي حصل على وجه بالتحديد، لكنه رأى في لمحة سريعة كل الحكايات التي كانت تحكيها الوالدة عن سنوات الشقاء والتعب منذ تهدَّم البيت الأول على رؤوس الأسرة الصغيرة، ورحلتها الطويلة من الشيخ مونس، إلى مخيم طولكرم! عاد الفتى وأمه وقد التصقت ملابسهما بجسديهما الناحلين، كان المؤذن يدعو إلى صلاة الفجر، صلى الفتى صلاته، وعاد إلى حيث ينام بين الأواني التي تجمع حبات المطر المتساقطة من سقف الزينكو، بعد أن استقرت حبات المطر داخل عظامه وهو يحاول مساعدة أمه بفتح مصرف الماء، فلم يعد يدري وقد أخذ النعاس منه كل مأخذ، إن كانت حبات المطر تتكتك داخل الأواني أم داخله! كان وقت العيادة محدودا فلم يكن مسموحا لأحد أن يمرض خارج أوقات دوامها الرسمي، وشذ عن هذه القاعدة الداية الملحقة بالعيادة حيث كانت تخف إلى مساعدة النساء الحوامل على الولادة وكثيرا ما كانت تصل بعد فوات (أو خروج!) الأوان.. وبالنسبة لأم الفتى، فلا يذكر الفتى إنها دخلت مستشفى، فقد تمت معظم ولاداتها في البيت أو.. المزرعة!! نعم! فقد شهد الفتى إحدى هذه الولادات، حيث قضت الأم يومها في مساعدة زوجها في جني الخضار، وفي نهاية النهار، وضعت مولودتها بمعونة العاملات في المزارع المجاورة.. ولا يذكر الفتى ماذا كان مصير المولودة أعاشت أم كانت من ضمن الثلاثة عشر الراحلين!! -3- كيف ينسى الفتى هذا النص، حتى لو نشره ملايين المرات؟ وكل يوم، وليس في يوم المرأة فقط؟ ليس ثمة من كلام يقال، ففي حياة كل منا «بطل» لا يموت، حتى وهو يرقد في سرير من تراب، يستلهم منه ما يعين على مواصلة الحنين! الدستور
مدار الساعة ـ نشر في 2018/03/11 الساعة 01:12