عن يسري ومرارات الغربة

مدار الساعة ـ نشر في 2018/02/24 الساعة 23:36
بلال حسن التل

لن أتحدث عن صفات المصور الصحفي, المصري يسري أنور عثمان, الذي رحل يوم الثلاثاء الماضي بلا مقدمات. ذلك أنني اتصلت به مساء يوم الاثنين الماضي لأسأله عن مصير عمل كنت قد أوكلته إليه فاخلف الموعد لأول مرة, منذ أن صار جزءً من معظم أنشطة جماعة عمان لحوارات المستقبل خلال الشهور الماضية في إطار عمله الصحفي. كان إخلاف الموعد مصدر استغرابي الذي دفعني للاتصال به, ليعدني أنه سيمر غداً لتسليم العمل, لكن الموت عاجله فأخلف الموعد رغماً عنه. وأنا هنا أشهد أن الرجل كان على غير عادة الكثيرين من المهنيين, ملتزماً بالوقت محترماً للموعد, صامتاً غير ثرثار, لا يتدخل فيما لا يعنيه, يقول خيراً أو يصمت, قنوعاً عفيف النفس غير ملحاح, وفوق ذلك كان رغم تعب السنين والآم الغربة دائم الابتسامة, داعياً إلى الابتسام, فما من مرة وقف ليصور شخص أومجموعة إلا ونطق لأزمته المعهودة "ابتسم يا أخي" ليتبعها بمداعبته لمن يصورهم "ون. تو. سانكيو". لن أتحدث عن ذلك كله, وعن غير ذلك من صفات الراحل يسري, فأجره لحسن خلقه على الله عزوجل, الذي يعلم السر وما أخفى, لكنني سأتحدث عن دلالات موت هذا الرجل المتقدم في السن وحيداً غريباً, باحثاً عن رزقه ورزق عياله, بعيداً عنهم وعن وطنه وكل أهله. وكيف أدت الكثير من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي طبقت في غير بلد عربي إلى إفقار أهله, وإجبارهم على التشرد في أنحاء المعمورة, بحثاً عن لقمة العيش ومصادر الرزق؟. هذا السؤال رسم أمامي صورة مظلمة, لأفواج من الشباب الأردني العاطل عن العمل في بلده, الباحث عن الرزق في بلاد المغتربات, فكم من أردني سيموت غريباً وحيداً, بفعل السياسات الاقتصادية التي طبقتها الحكومات المتعاقبة, وكانت نتيجتها ما يعانيه الأردنيون من كرب اقتصادي يدفع شبابنا إلى الاغتراب بحثاً عن لقمة العيش؟ وهنا قد يقول قائل أن اغتراب الأردنيين, وعملهم خارج وطنهم, ليس جديداً, ولكنه جزء أساسي من الدورة الاقتصادية الأردنية, التي تشكل تحويلات المغتربين الأردنيين نسبة لابأس بها من مواردها. والرد على هذه المقولة سهل وبسيط, وهو أن هناك فرقاً شاسعاً بين الاغتراب والغربة عن اختيار وخيار, كما كان حال الأردنيين على امتداد النصف الثاني من القرن الماضي, وبين الغربة والاغتراب كرهاً بسبب ضيق ذات اليد, كما هو واقع الحال بالنسبة للأردنيين في السنوات الأخيرة. مثلما أن هناك بوناً شاسعاً بين الاغتراب والغربة اختيار وخياراً, لتحسين الأحوال وزيادة الدخل, كما كان عليه حال الأردنيين في القرن الماضي, وبين الاغتراب والغربة اضطراراً وبحثاً عن لقمة العيش, وفرصة العمل, دون خيار للقبول أو الرفض, ودون أن نقلل من احتمالات موت أي شاب أو كهل أردني غريباً وحيداً, كما حدث مع الراحل يسري الذي هب معارفه من الأردنيين للقيام بواجب تجهيزه ووداعه. بينما يعيش الأردنيون في بلدان يصر بعض أهلها على إبقاء من يأتي للعمل في بلدانهم في إحياء خاصة ومعزولة, باعتبارهم وافدين كل واحد منهم معرض للتسفير والطرد في أي لحظة ولأتفه سبب. من المؤكد أن السياسات الاقتصادية تشكل سبباً رئيساً من أسباب اضطرار الكثير من الشباب للهجرة القسرية لأوطانهم بحثاً عن العمل, لكن لابد من الاعتراف أن للثقافة المجتمعية السائدة دوراً في هذه الهجرة, وحالة الراحل يسري تقدم دليلاً على ما أقوله, فقد كان رحمه الله يعمل مصوراً فوتوغرافياً, وهذه مهنة ليست من المهن المعيبة, فلماذا يتركها الأردني لغيره من الوافدين؟ والجواب يكمن في الثقافة الاجتماعية السائدة في مجتمعنا الأردني, والتي تجعل للعمل المكتبي والحكومي مكانة اجتماعية متقدمة على مكانة العمل اليدوي والمهني, وهذه ثقافة طارئة على مجتمعنا, ولعلها سبب من أسباب أزمتنا الاقتصادية, خاصة في الجانب المتعلق بالبطالة, فمن غير المنطقي والمعقول أن يوفر بلدنا أكثر من مليون فرصة عمل للوافدين, ثم نشكو من نسبة بطالة عالية, لأن شبابنا يستنكفون عن مزاولة الكثير من المهن المحترمة, التي كان يزاولها أباؤهم وغير أبائهم من أقاربهم, ولعل إصلاح هذا الخلل الثقافي يسد باباً من أبواب الغربة والموت فيها دون أهل كما حصل مع الراحل يسري. كثيرة هي التداعيات التي أثرها الموت المفاجىء, للمصور يسري أنور عثمان, لعل أهمها التساؤل عن رعاية الشيخوخة في بلادنا, وبرامج الرفاه الاجتماعي التي يمكن أن تحمينا مما تعرض له يسري, الذي تجاوز السبعين كادحاً بعيداً عن وطنه وأهله يرحمه الله. Bilal.tall@yahoo.com
الرأي
  • عمان
  • تقبل
  • يعني
  • اقتصاد
  • عرب
  • صورة
  • شباب
  • الأردن
  • مال
  • لحظة
  • رئيس
  • ثقافة
  • عالية
مدار الساعة ـ نشر في 2018/02/24 الساعة 23:36