الهروب الى زوايا الزهد
مدار الساعة ـ نشر في 2018/01/18 الساعة 00:21
سألني احد القراء الأعزاء: لماذا تجلدوننا كل يوم بمقالات وتصريحات عن الازمة الاقتصادية والعجز الذي تعاني منه الموازنة في بلدنا، وتنشغلون بالتشخيص والوصف، ثم تندبون حظوظنا بعد رفع الاسعار والضرائب، وكأننا لا نعرف ذلك او نلمسه في حياتنا.. ارجوكم: قولوا لنا ما العمل.. او دلّونا على وصفة نستطيع ان نصرفها من (صيدلية) واقعنا بما تبقى في جيوبنا من ثمن؟
فاجأني الرجل بالسؤال، واستعدت في ذاكرتي كل ما سمعته من المسؤولين الذين نشطوا مؤخراً في (استدعائنا) لتوضيح الصورة، فلم اجد ما انقله لصاحبنا على لسانهم من حلول سوى (المزيد من الصبر والتقشف) وانتظار الفرج.. قلت: هذه الوصفة لا تنفع لإكساب الناس (مهارات) خاصة في التقشف، او - ان شئت - (رياضة) روحية لتدريبهم على الصبر وعلى ممارسة فضيلة الزهد وعزيمة التحمل والرضى والسعادة.
قلت الصبر؟ نعم، لانني اعرف خيارات اخرى لا اريد ان افكر بها الان بعد ان اقتنعت بما اصاب مجتمعنا من رضوض وجراحات دفعته للاستسلام لقدره، لدرجة ان احساس بعضنا تبلد عند لحظة فارقة، فاصبح لا يبالي باي قرار، حتى لو كان يمس اهم تفاصيل حياته، سواء بدافع الخوف على بلده او العجز عن الاحتجاج على اي شئ.
الآن تذكرت بان ثمة تجربة يمكن استدعاؤها على الفور للاجابة عن سؤال العمل الذي طرحه القارئ العزيز، انها تجربة (اخواننا) المتصوفين، ترى ما الذي يمنع من اعادة الاعتبار للتصوف في بلادنا، ما الذي يمنع من ارسال شبابنا الى (الزوايا) لتهذيب اخلاقهم واعطائهم تمارين حيّة في الصبر والزهد والتقشف، ألم تساهم الصوفية - كحركة اسلامية - في التربية الاخلاقية، وفي مواجهة التطرف، وفي اعادة التوازن الروحي الذي اختطفته الاغراءات المادية؟، السنا اليوم بحاجة الى (طريق ثالث) يخرجنا من هذه (الخيبات) السياسية والاقتصادية؟، وهل ثمة حل آخر افضل من هذا (التدين) الروحي لتطمين الآخرين على عودة (الروح) وشيوع الرضا العام، والخروج من دائرة (النقد) السياسي، ومخاوف اليأس والاحباط وما قد تنتهي اليه المخاضات المؤلمة من ولادات؟.
أعرف ان ثمة من يقول: انت تمزح او ربما تسخر، انت تهرب بنا من الواقع الى الحلم، ومن الاجابة الصحيحة والجذرية الى (الوهم)، ومن المعالجات السياسية والاقتصادية المطلوبة والمعتبرة الى (المسكنات) الروحية المؤقتة، ربما يكون هذا صحيحاً - بالطبع - ولكنني - بصدق - لم أجد غير هذه الوصفة، وفي هذه الظروف الصعبة بالذات، فقد دخل الناس الى نفق طويل من التيه، وأوشك الكثير منهم ان يصاب بالاحباط، واذا كان (الفتية) الذين ذكر لنا القرآن الكريم قصتهم قد دخلوا الى (الكهف) فان (كهف) الصوفية اليوم قد يكون مناسباً لتدريب شبابنا على (الصبر والزهد) بعد ان صدمهم الواقع، والتبست عليهم (الحلول) وضاقت بهم انفسهم؛ أرجو ان لا يعتقد احد ان هذه دعوة الى الانسحاب او الانشغال بتطهير الذات فقط، او تبرير (الرضى بالواقع).. هذا لم يخطر في بالي ابداً، ولكنني اردت ان اقدم وصفة عملية - بعد ان انسدت ابواب الحلول لكل من يريد ان يتصالح مع نفسه ومجتمعه، او أن (يتأهل) نفسياً لمواجهة الظروف الصعبة وتجاوزها، او لمن يبدو قلقاً من صور (الانتحار) التي اجتاحت مجتمعاتنا، واذا كان لدى القارئ العزيز اي وصفة اخرى فليدلني عليها.
الحكومة تقول بأنها وجدت نفسها بين خيارين احدهما مرّ والآخر (أمرّ) فهل ثمة من يلومني اذا لم أجد خياراً (أمرّ) من صرف هذه (الوصفة) لتقوية مناعة شبابنا ضد امراض الخوف والفقر والتطرف، وحماية مجتمعنا من ازماته المتراكمة؟
الدستور
مدار الساعة ـ نشر في 2018/01/18 الساعة 00:21