بين الهجرة والصراعات في إفريقيا

مدار الساعة ـ نشر في 2018/01/15 الساعة 19:50
ظاهرة قوارب الموت في البحر المتوسط ليست جديدة، فقد رويت قصص كثيرة عن أسر تشتت شملها في العبور نحو الشمال بحثاً عن الأمان أو عن رغيف الخبز، فكان الموت متوثباً ليخطف الباحث عن الحرية أو الأمن والأمان، ورويت حكايات وروايات عن مفقودين وضائعين وعن مخيمات استقبال اللاجئين وأيام الانتظار بين الحدود والحدود، وإذا كانت الهجرة ظاهرة طبيعيه عبر التاريخ فإنها في العقود الأخيرة بدأت تتخذ منحى جديد من إفريقيا تحديداً، إذ يُجمعْ كل من لهُ علاقة بالشأنِ الإفريقيِ أنَ البحث عن عمل في أقطار القارة السمراء أشبه بالبحث عن إبرة في كومة كبيرة من القش، وأنَ تحقيق معادلة الإبداع والتميز والتقدم والتنمية شبه معدوم بسبب حالة الإفقار المتعمدة التي مارستها دول الشمال عبر عقود من استعمارها واستعبادها لشعوب القارة الإفريقية مخلفة ورائها الفقر والجوع، ولذلك فلا يبدو أنَ حالة الهجرة المسماة بالا شرعية إلى دول الشمال ستتوقف إلاَ إذا حلت مشكلة تأمين فرص عمل للأفارقة عبر إنشاء مشاريع تنموية بتمويل كامل من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية تقدم كتعويضات عن فترات الاستعمار غير الشرعية للقارة الإفريقية ولشعوب الأرض التي تعرضت أيضاً لذات الفعل كلبنان وسوريا والعراق وغيرها. إن شباب القارة الإفريقية ينتقلون من قراهم ومدنهم التي ولدوا فيها وأحبوها مخاطرين بحياتهم والموت غرقاً أو الاعتقال والتسفير أو حتى الاحتيال للذهاب إلى مدن أوروبية تعاني الضجيج والزحمة و التلوث ويتراكض فيها البشر تراكض الوحوش لسبب واحد هو البحث عن رغيف الخبز وتأمين قوت عائلاتهم بعد أنْ تقطعت بهم سبل العيش في بلادٍ أنهكتها الحروب والمجاعات والأمراض بفعل استعباد دول الشمال الأوروبية لدول الجنوب الإفريقية قبل قرون مضتْ ولكنها تركت إرثاً من الفساد والجوع والمرض، واستنزاف المقدرات ونهب الثروات، وهو ما أنشأ واقعاً جديد لسكان الجنوب البسطاء الباحثين عن العيش الآمن. لقد أعمل الاستعباد والاستعمار عمله في إفريقيا، فجاعت شعوبها وشردت، وأُخذ أبناؤها عبيداً يبنون إمبراطوريات الشمال الاقتصادية والعمرانية بعرق ومال الجنوب، فأفقروه وهدموا جزءاً من مستقبله كما هدموا ماضيه وحاضره. وإذا كانت ظاهرة الهجرة تشكل معضلة لبلدان الشمال فهي تمثل مشكلة أكبر لدول الجنوب، أي مشكلة للدولة الطاردة بحجم مشكلة الدولة المستقطبة، بالإضافة إلى المهاجر نفسه، فالبلد الطارد للهجرة وهو البلد الأم للمهاجر، سوف يخسر طاقة بشرية ومهمة بقدر درجة تعليمها ومهارتها، والبلد المستقطب للهجرة سوف يواجه إشكالية تدريب وتأهيل وتوجيه المهاجر وبحث سبل اندماجه في مجتمعه الجديد، أما بالنسبة للمهاجر نفسه فإنه سوف يواجه إشكاليات وتحديات تتمثل في فقدان وطنه الأم وتواصله مع ثقافته الأصلية التي تربى عليها، وسيواجه إشكالية التكيف والاندماج مع المجتمع الجديد التي تتطلب منه بذل الكثير لرفع مستوى كفاءته في اللغة والعمل وتعديل أو تغيير الكثير من عاداته وتقاليده، وقيمه الثقافية في معظم الأحيان، فضلا عن إجهاد نفسه في تعلم لغة جديدة إذا ما كانت لغته الأصلية مختلفة بالإضافة إلى مهارات أخرى، وهذا له تكاليف ومخاطر كبيرة، أفليس من الأجدى تنمية المجتمعات الطاردة وحل مشكلة المهاجرين عبر تأهيلهم في بلادهم الأصلية عبر مشروعات إنتاجية وتعويض بلدانهم عن فترات الاستعمار وبالتالي حل مشكلة الدولة الطاردة والمستقبلة معاً. إن الحاجة ملحة لمناقشة موضوع الهجرة تمهيداً لحله جذرياً، وفضح الأسباب التي تؤدي إلى الهجرة التي يسموها لا شرعية وذلك بتعويض الدول التي استعمرت بما يكفل حل مشاكلها اقتصادياً واجتماعياً وإلاَ ستستمر الهجرات بحثاً عن ثروات الدول المنهوبة من قبل أوروبا وأمريكا حتى يتحقق العدل وتنتفي الحاجة إلى الهجرة . ومن الأمور التي يجب أن تذكر هنا أن الهجرة في جانب منها رحلة الإنسان الإفريقي بحثاً عن الأمان في أرض تجري فيها صراعات وحروب أهلية الثابت في هذه الصراعات والحروب أنَ الاستعمار قديمه وجديده هو من أجج لهيبها وزاد اشتعالها عندما غادر إفريقيا وخلف وراءه تركة من الخلافات على الأرض والمياه ناهيك عن أزلامه وأتباعه وسماسرته، فمنذ القرن الخامس عشر والدول الأوروبية ترابط في القارة الأفريقية وتأبى مغادرتها وترك الأفارقة يحلون قضاياهم بأنفسهم ،لارتباط هذه المنطقة من العالم بطرق التجارة الدولية من البحر الأحمر والمحيط الهندي وخليج عدن، بل أنَ الصراع بين هذه الدول الأوروبية الاستعمارية على النفوذ في تلك المنطقة عكس نفسه على الصراع في كل القارة الإفريقية، فلا الدول الأوروبية غادرت عقلية الطامع ، ولا الأفارقة استطاعوا الاستقلال بقرارهم عن مراكز القرار الأوروبية فزادت محنتهم وفقرهم ، وتفشت فيهم مظاهر الأزمات، مما شكل مدخلاً وحجة للتدخلات الأوروبية والأمريكية بعد ذلك، وهكذا توالت التدخلات وتفجرت الصراعات. أما الآن فقد تصاعد الاهتمام الدولي والإقليمي بالقارة الافريقية بصورة ملحوظة وذلك في إطار أهمية هذه المنطقة جغرافياً وإستراتيجياً باعتبارها منطقة ربط للتجارة الدولية، و تشرف على مناطق إنتاج ونقل البترول، وقد أعادت الولايات المتحدة الأمريكية صياغة منطقة القرن الإفريقي من الناحية الجيواسترإتيجية لتعكس حقيقة سياسات الهيمنة والنفوذ ، و تم في هذا السياق إعادة تشكيل مفهوم القرن الإفريقي الكبير ليعبر عن المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية والإستراتيجية للدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في شمال شرق إفريقيا , بالإضافة إلى منطقة البحيرات العظمى، وعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول دفعت الاعتبارات الأمنية ببعض أدبيات التفكير الإستراتيجي الغربية إلى التوسع في استخدام مفهوم القرن الإفريقي ليشمل اليمن وربما بعض بلدان الخليج العربية . وهكذا للأهمية الإستراتيجية للقرن الإفريقي، وكذلك لأسباب أخرى ثقافية وسياسية ازدادت التدخلات الدولية من أجل السيطرة والنفوذ، و هو ما حدد بشكل كبير تطور الأحداث ومآلها في المنطقة , بيد أن درجة ومستوى هذه التدخلات تباينت من فترة زمنية إلى أخرى , ولا أدل علي ذلك من أن القرن الإفريقي ارتبط ارتباطا وثيقا بالصراع العربي الصهيوني حتى إن بعض المحللين اعتبره جزء من منظومة الإقليم الإفريقي الشرق أوسطي ، وهكذا فقد اجتذبت هذه المنطقة الحيوية قوى دولية أخرى على رأسها الصين والهند إضافة إلى قوى أوروبية ذات مصالح تقليدية والولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يعني أن التنافس الدولي على الثروة والنفوذ في القرن الأفريقي قد أسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في إضفاء مزيد من التعقيد والتشابك على مجمل الصراعات التي تشهدها المنطقة، ولعل إشكالية القرصنة البحرية التي تشهدها سواحل المنطقة تعكس حقيقة هذه الطبيعة المعقدة لمنظومة صراعات القرن الأفريقي. وزاد الطين بله أنْ دخلت الولايات المتحدة إلى المنطقة بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، آملة بتحقيق نوع من النفوذ هناك، والحلول محل النفوذ الفرنسي والإيطالي ، وفي إطار جعل تلك المنطقة منطقة نفوذ وقواعد عسكرية، بعد اكتشاف النفط والذهب والغاز الطبيعي في المنطقة إلى جانب أنَ دولاً افريقية كثيرة تمتلك احتياطيات كبيرة من المعادن التي تستخدم في الصناعات الثقيلة والنووية مثل الكوبالت واليورانيوم، كما أنها تمتلك ثروة مائية هائلة ، وكذلك في إطار الرغبة الأميركية أيضاً في حصار الشمال العربي الأفريقي، بل الدول العربية المطلة على البحر الأحمر عموما، ويؤكد ذلك إنشاءها قواعد عسكرية عديدة في إفريقيا، بل وتأسيسها قبل سنوات قليلة قيادة مركزية خاصة بأفريقيا (أفريكوم). وتبع التدخل الأمريكي بل جاء مترافقاً معه وداعماً له التدخل الصهيوني، فازدادت الأزمات واشتعلت المنطقة وأصبحت ناراً ملتهبة في دارفور والصومال واريتريا وإثيوبيا وغيرها ، وبدأ عصر جديد من الصراعات في هذه المنطقة التي كان المنطق يقول أنها أهدأ بقاع القارة الإفريقية، لكنها مع بدأ الإستراتيجية الصهيونية في تنفيذ برامجها في القارة الإفريقية من هذا المنفذ الخطير شديد الأهمية أصبحت أكثر بؤساً. وكان للصومال نصيب الأسد من هذه التدخلات لأهميتها الخاصة، فهي التي تمتلك أكبر ساحل على المحيط الهندي، وهو ما استغل للإيقاع بينها وبين إثيوبيا التي لا تمتلك أي منافذ بحرية، ومن ثم فإن اهتمام الولايات المتحدة بتحقيق نوع من النفوذ في الصومال دفعها لإعادة رسم معالم صراع جديد في بداية تسعينيات القرن الماضي وهو ما أشعل حرباً لا زالت آثارها بادية للعيان حتى الآن في الصومال وإثيوبيا معاً. لقد استغلت الولايات المتحدة الصراع أسوء استغلال ، وعبر مؤسسة الأمم المتحدة ومجلس الأمن النافذة فيه، والتي تسيره كيفما شاءت لخدمة أغراضها ومصالحها تدخلت في الصومال، و دخلت بقواتها ضمن إطار قوات الأمم المتحدة في ذلك الوقت، و واستصدرت قراراً من مجلس الأمن بالسماح لتلك القوات بالحرب بدعوى القضاء على أمراء الحرب والمليشيات في الصومال بعد سقوط نظام سياد بري، ودفعت ثمناً باهظاً لا زالت صوره راسخة في الذاكرة الأمريكية حتى الآن في صور سحل جنودها في شوارع مقديشو سجلته أفلامهم بأبشع صور الإذلال للجندية العسكرية الأمريكية المتغطرسة. ومع الانسحاب الأميركي من الصومال تغيرت التكتيكات الأميركية بالنسبة للقرن الأفريقي ، ولكن الإستراتيجية والأهداف بقيت ثابتة كما هي، فمحاولة تحقيق نفوذ على حساب فرنسا وإيطاليا في القرن الأفريقي وفي أفريقيا عموما هدف أميركي مستمر، والسيطرة على منافذ البحار في القرن الأفريقي أيضاً هدف أميركي مستمر، ومن ثم بقيت الصومال هدفا أميركيا، ولكن عن طريق غير طريق القوة العسكرية، لأن تجربة الولايات المتحدة في هذا الصدد مريرة، ولأن أوضاعها الحالية والمأزق في العراق وأفغانستان وسوريا وليبيا لا يسمحان بذلك بوجود الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام وهي الجماعة التي أنتجتها القاعدة بنسخة أكثر تطرفا ومغالاة، وهكذا بقيت أميركا تساند الفوضى ، و لا عجب أنها دعمت كل أنواع أمراء الحرب على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم. إننا نرى في تحمل المجتمع الدولي لمسؤولياته في إصلاح الخلل الذي أحدثه باستعمار القارة تقديم تعويضات مناسبة للأفارقة كنوع من الحل والاعتذار عما أحدثه من دمار وبؤس، إلى جانب دور الاتحاد الإفريقي السياسي والعسكري والأمني في الحل وذلك لتحقيق السلام والتنمية، بعيداً عن أي تدخل خارجي.
مدار الساعة ـ نشر في 2018/01/15 الساعة 19:50