بانتظاردقات ساعة الحكمة...!

مدار الساعة ـ نشر في 2017/01/19 الساعة 00:40
ما نراه، او ما نسمعه يتردد في مجالنا العام لا يمكن ان نفهمه الا في سياق واحد وهو: الانفعال، يمكن –بالطبع-، لمن أراد ان يتحقق من معنى هذا المصطلح ان يعود للموسوعات العلمية او للخبراء في علوم النفس والاجتماع، لكن ما يهمني هنا هو الإشارة الى مسألتين: الأولى: ان افعالنا وردود افعالنا، سواء صدرت من الناس او من النخب، اتسمت على مدى الأشهر الماضية بحالة من التوتر، حتى كدنا نفقد اعصابنا، ووسط هذه المناخات “الملوثة” بعواصف الغضب والكراهية واللامعقول وجدنا انفسنا في حلبة “مصارعة”، لا يفكر احدنا تجاه الاخر الاّ بمنطق “الضربة” القاضية.

أما المسألة الثانية فهي اننا عايشنا على مدى السنوات الماضية مرحلتين: احداهما تزامنت مع ما سمي بالربيع العربي حيث اختارت الدولة ان تنسحب الى الخلف خطوتين للتكيف مع ما جرى، فيما تزامنت المرحلة الأخرى مع انقشاع “حلم” التغيير حيث استشعرت الدولة “بالقوة” وتجاوزت حالة “الاسترخاء” وكان يفترض ان تستثمر في هذه الحالة لبناء خريطة طريق للمستقبل.

الآن نحن امام مرحلة جديدة اعتقد انها ستكون مختلفة نسبيا عن المراحل الماضية، ليس فقط لأننا مع قدوم هذا العام تجاوزنا سنوات الزرع والحصاد وأصبحنا أمام “عام البيدر” بكل ما تحمله الكلمة من دلالات وظلال، ولكن لأننا ايضاً وجدنا أنفسنا أمام أزمات متراكمة واستحقاقات جديدة ضغطت على اعصابنا “السياسية” والاجتماعية والاقتصادية معاً، ولم تترك لنا الظروف الإقليمية والدولية مجالاً أوسع للمناورة او مخارج العبور نحو خيارات غير تلك التي تتراوح بين السيئ والاسوأ.

قبل ان أستطرد في شرح ما ينتظرنا ، وقبل ذلك ما فعلناه بأنفسنا، لابدّ ان اشير الى أن ما شاهدنا من مشاحنات وانفعالات في مجلس النواب، ثم ما تابعناه من فصول “لتصفية” الحسابات التي وصلت الى حد انتهاك ابسط الحقوق الإنسانية ( دعك من اخلاقيات الخصومة السياسية) ، ثم ما جرى من جرائم بشعة في حقلنا الاجتماعي لم يسبق لها مثيل، ناهيك عن روائح الكراهية واثارة الأحقاد والتهديدات المتبادلة التي انتشرت بسرعة في مجتمعنا، كلها تصب في خانة واحدة وهي الانفعال والتوتر والارتباك وافتقاد الحكمة والصبر، ومن المؤسف ان عدوى هذه “الآفة” انتقلت سريعاً من الناس الى النخب، ومن الافراد الى المؤسسات، ومن أعماق المجتمع الى دوائر النفوذ والقرار.

لا أحتاج بالطبع لمن يذكرني بأن لدينا العديد من القضايا والملفات (الازمات إن شئت) الى تضغط على أعصابنا، واخشى ان أقول انها تخنقنا، سواء ازمة الاقتصاد والمديونية والعجز والضرائب التي تطل علينا برأسها مع مطلع كل عام، وما يترتب على معيشة الناس من ضيق وضنك، او ازمة السياسة التي تعطلت اسنان عجلاتها وتحول بعض النخب الفاعلين فيها الى عبء إضافي عليها وعلى المجتمع، او ازمة الكساد الاجتماعي الذي يمكن ان تختزله ارقام العنوسة في مجتمعنا حيث تجاوزت اعداد النساء (فوق سن 30 عاماً) ممن لم يتزوجن واعداد الارامل حاجز المليون.

لا احتاج ايضاً لمن يذكرني بالتهديد الذي يحاصرنا من كل اتجاه، تهديد داعش الذي استنفر، وخلايا الإرهاب التي اجتازت امتحان التطرف وبدأت تتململ داخلنا، وملف “التسوية” الذي ركبته إسرائيل لتفرض علينا ما تريده من حلول، وملف “المساعدات” الذي يبدو انه أصبح مقفلاً، وملف إيران التي أصبحت رقم (1) في المنطقة.

كل هذا الذي نعرفه والآخر الذي نتوقعه مع قدوم ترامب للبيت الأبيض وما سيلحقه من تطورات واستحقاقات، يضعنا -بالتأكيد- في دائرة “التحسب والاستنفار” ويضغط على “اعصابنا” وخياراتنا أيضا.

السؤال الذي يحب الا يغيب عن اذهاننا هو: بأي منطق يفترض ان نواجه هذا الواقع المزدحم بالأزمات والهواجس والتحديات..؟

لدينا -بالطبع- ثلاثة خيارات على الأقل، او إجابات إن شئت، الخيار الأول: منطق الحكمة والفهم بما يترتب عليه من قرارات هادئة وحوارات جادة وجبهة داخلية موحدة ونخب وطنية واعية وامينة، وسياسات عادلة ومقاربات امنية وسياسية مدروسة، الخيار الثاني: منطق الانفعال والتوتر والارتباك والخوف والمبالغة في الهواجس واستخدام الفزاعات، بما يترتب عليه من اشتباك بين الناس ومشاحنات وتصفيات في أوساط النخب وخيبات لدى الجميع، يبقى المنطق الأخير وهو الاسترخاء السلبي، حيث تغيب المبادرة وتجف قنوات التنسيق ويزداد الارتجال والإهمال، وتنتشر ثقافة “انتظر ما في الغيب” او “كل يوم بيومه”.

لا انتظر ان يسألني احد عن الخيار الأفضل، فهو معروف للجميع، لكن بقي لدى كلمة أخيرة وهي: انما نراه من صور ونسمعه من أصوات وصراخ في مجالنا العام، يجب ان يقودنا الى حقيقة واحدة وهي ان ساعة “الحكمة” لا بدّ ان تدق، والاّ فإن ما ينتظرنا سيكون اصعب مما نتصور.
الدستور
مدار الساعة ـ نشر في 2017/01/19 الساعة 00:40