إيران: عن الظاهرة الاحتجاجية وما وراءها
مدار الساعة ـ نشر في 2018/01/03 الساعة 00:02
/>من السابق لأوانه إطلاق التكهنات بشأن ما يجري في إيران من تظاهرات واحتجاجات، فالمسألة على ما يبدو، ما زالت في بداياتها، وسوف يتوقف على الطريقة التي ستعالج بها أجهزة الحكومة والدولة الظاهرة الاحتجاجية، تقرير مستقبل الظاهرة واتجاهات تطورها.
لا شيء “غير مألوف” في الخطاب الإيراني المصاحب للظاهرة ... طهران، سارعت للحديث عن “مؤامرة خارجية”، وعن تدخل بالمال والسلاح والإعلام و”الجواسيس” لإشعال الوضع الداخلي وإشغال الجمهورية الإسلامية عن دورها “المقاوم” في الإقليم برمته، وفي مسعى لسلبها وحلفائها، “المكاسب والانتصارات” التي تحققه لهم خلال الأعوام القليلة في عدة دول وساحات عربية... الإجراءات استبطنت مزيجاً من “القوتين الناعمة والخشنة”، قتلى وجرحى ومئات المعتقلين، وهجوم على وسائل التواصل الاجتماعي وغير ذلك مما ألفنا وعرفنا خلال سنوات الربيع العربي السبع الفائتة.
صحيح أن في إيران من حاول تقديم رؤية أكثر واقعية للحدث، من خلال التمييز بين عناصر شغب “مندسة” و”تخريبية” من جهة ومتظاهرين سلميين يطالبون بحقوق مشروعة لهم، كفلها الدستور ونظمتها القوانين المرعية ... لكن تطور الحدث واستمراريته، يعطي أفضلية وترجيحاً لـ “خطاب المؤامرة”، بدلالة أن المرشد الأعلى، وفي أول تعليق له على الأحداث، لم يجد غير المؤامرة والمتآمرين من تفسير للتطورات والأحداث الأخيرة ... وإن استمرت الحال على هذا المنوال، فسيختفي تماماً الخطاب العقلاني وسترتفع أصوات المطالبين بـ “الحسم” استناداً إلى “نظرية المؤامرة” إياها، وهذا أمرٌ شاهدناه وشهدنا عليه في بدايات الأزمة السورية الأولى.
ولا شيء مفاجئا في خطاب الإقليم وعواصم القرار الدولي حيال ما يجري، إذ ما أن خرجت أولى التظاهرات الاحتجاجية، حتى طالعتنا وسائل إعلام عربية وغربية، بتحليلات و”تقارير” تتحدث عن “ثورة” واهتياج”، تبشر بقرب سقوط النظام وتحذره من الاستخدام المفرط للقوة في مواجهة المتظاهرين، وتسهب في شرح أسباب الضيق والفشل التي أسهمت في تشكل الظاهرة، وتعزوها حيناً للفشل الاقتصادي، وحيناً آخر “لانتفاخ” الدور الإقليمي الإيراني، المكلف والمرهق للمواطنين ودافعي الضرائب منهم.
وكلما ارتفع منسوب “المؤامرة” في خطاب المسؤولين الإيرانيين، وكلما أظهر خصوم طهران، مزيداً من “التبني” و”التعاطف” و”التشجيع” و”التحريض”، تزايدت احتمالات دخول الحركة الاحتجاجية الشعبية في مربعات “العنف” و”العنف المضاد”، وارتفع منسوب القلق من مغبة أن تعيد إيران انتاج بعض تجارب “الربيع العربي”، الأكثر دموية.
على أن المتتبع للمشهد الإيراني، لن يفوته إدراك حقائق ثلاثا، يصعب من دونها فهم ديناميكيات تطور انبثاق الحركة الاحتجاجية واحتمالات تطورها:
الحقيقة الأول؛ إن إيران، بتخصيصها للكثير من مواردها لتطوير قدارتها العسكرية وحفز برامجها التسليحية، إنما تكون فعلت ذلك على حساب “رفاه” مواطنيها وصحتهم وتعليمهم وتوفير فرص عمل لهم، خصوصاً للفئات الشابة والأجيال الناشئة ...وهذا محرك قوي لأي فعل شعبي احتجاجي ... بهذا المعنى، تكون إيران سلكت طريق الاتحاد السوفياتي المنحل، ومن دون أن تستفيد من دروس تجربته: من دون تطور في شتى مجالات الحياة والاقتصاد والخدمات، لا يمكن لأي برامج تسليحية أو عسكرية، أن تحفظ أمن الداخل واستقراره، ولا تبقي على تماسكه ... التطور ذو البعد الواحد، واصل لا محالة إلى طريق مسدود، سيما أن ترافق مع إصرار على الاحتفاظ بدور إقليمي/ دولي مكلف، كما في الحالتين الإيرانية والسوفياتية، والثورات لحظات ومحطات في تاريخ الشعوب والمجتمعات، ومعيار انتصار الثورة الأهم، يتجلى في قدرتها على التحوّل إلى دولة... بهذا المعنى، تبدو الحركة الاحتجاجية مفهومة، بل ومفهومة تماماً.
الحقيقة الثانية؛ أن لإيران مروحة واسعة من الخصوم والأعداء، لم يترددوا في الكشف عن نواياهم وأهدافهم بـ “نقل الحرب إلى الداخل الإيراني”، وأن هذه الأطراف، لم تقف ساكنة وصامتة طوال السنوات القليلة الفائتة، وأنها دعمت فئات وجماعات ومكونات إيرانية، بهدف زعزعة أمن إيران واستقرارها وتفتيت وحدتها، وأن هذه الأطراف لم تتوان عن دعم جماعات إرهابية لاستهداف إيران في عمقها، وأن ثمة جهدا استخباريا لم يعد خافياً على أحد، بهدف ضرب البيت الإيراني من الداخل، وأن محاولات كهذه، تنخرط فيها بنشاط متفاوت من حيث جديته وخطورته، أطراف دولية مثل الولايات المتحدة، وإقليمية مثل إسرائيل قالت وفعلت ذلك علناً على أي حال... بهذا المعنى، لا يبدو أن حديث “المؤامرة” منبت عن سياقه، فلدى القائلين به، معطيات تدلل على جدية خطابهم.
والحقيقة الثالثة؛ ثمة في أفق الحركة الاحتجاجية، ما يشي بوجود صراع قوى داخل النظام الإيراني، ربما كان امتداداً لانتفاضة 2009، التي أعقبت انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيساً لإيران ... ولقد كان في نبرة التصريحات الرئيس روحاني، ما يشي بذلك ... ما يعني، أن الظاهرة الاحتجاجية، لا تعبر عن احتقان العلاقة بين النظام والشارع، أو قسم منه على أقل تقدير، بل وتعكس خللاً في علاقات القوة بين اتجاهات النظام ومدارسه وتياراته الفكرية والاجتماعية المختلفة، وتلكم حقيقة يعرفها الجميع على أي حال، وتظهر جلية في كل موسم انتخابي، رئاسياً أكان أم برلمانياً، وهي تملي إعادة التفكير جدياً في طبيعة النظام السياسي الإيراني وقدرته على استيعاب وتمثيل وتمثل التعددية الإيرانية السياسية والاجتماعية والاثنية والدينية وغيرها.
خلاصة القول، قد يكون من السابق معرفة كيف ستتطور الاحتجاجات في إيران، لكن على القيادة الإيرانية إن هي أرادت عدم الانزلاق إلى “أسوأ سيناريو”، أن تتفادى مع حصل في سوريا، وألا تكثر من التعويل على “نظرية المؤامرة”، وأن تبقي في خلفية وعيها للأزمة، تجربة صعود وهبوط الاتحاد السوفياتي، فثمة الكثير من المشتركات وأوجه التشابه في التجربتين، ومن دون أن يعني ذلك، التسامح مع محاولات التدخل والتخريب التي ستقوم بها أطراف عدة، وبالذات إسرائيل، خدمة لمصالح ومآرب أخرى، ليس للشعب الإيراني ناقة فيها ولا جمل.
لا شيء “غير مألوف” في الخطاب الإيراني المصاحب للظاهرة ... طهران، سارعت للحديث عن “مؤامرة خارجية”، وعن تدخل بالمال والسلاح والإعلام و”الجواسيس” لإشعال الوضع الداخلي وإشغال الجمهورية الإسلامية عن دورها “المقاوم” في الإقليم برمته، وفي مسعى لسلبها وحلفائها، “المكاسب والانتصارات” التي تحققه لهم خلال الأعوام القليلة في عدة دول وساحات عربية... الإجراءات استبطنت مزيجاً من “القوتين الناعمة والخشنة”، قتلى وجرحى ومئات المعتقلين، وهجوم على وسائل التواصل الاجتماعي وغير ذلك مما ألفنا وعرفنا خلال سنوات الربيع العربي السبع الفائتة.
صحيح أن في إيران من حاول تقديم رؤية أكثر واقعية للحدث، من خلال التمييز بين عناصر شغب “مندسة” و”تخريبية” من جهة ومتظاهرين سلميين يطالبون بحقوق مشروعة لهم، كفلها الدستور ونظمتها القوانين المرعية ... لكن تطور الحدث واستمراريته، يعطي أفضلية وترجيحاً لـ “خطاب المؤامرة”، بدلالة أن المرشد الأعلى، وفي أول تعليق له على الأحداث، لم يجد غير المؤامرة والمتآمرين من تفسير للتطورات والأحداث الأخيرة ... وإن استمرت الحال على هذا المنوال، فسيختفي تماماً الخطاب العقلاني وسترتفع أصوات المطالبين بـ “الحسم” استناداً إلى “نظرية المؤامرة” إياها، وهذا أمرٌ شاهدناه وشهدنا عليه في بدايات الأزمة السورية الأولى.
ولا شيء مفاجئا في خطاب الإقليم وعواصم القرار الدولي حيال ما يجري، إذ ما أن خرجت أولى التظاهرات الاحتجاجية، حتى طالعتنا وسائل إعلام عربية وغربية، بتحليلات و”تقارير” تتحدث عن “ثورة” واهتياج”، تبشر بقرب سقوط النظام وتحذره من الاستخدام المفرط للقوة في مواجهة المتظاهرين، وتسهب في شرح أسباب الضيق والفشل التي أسهمت في تشكل الظاهرة، وتعزوها حيناً للفشل الاقتصادي، وحيناً آخر “لانتفاخ” الدور الإقليمي الإيراني، المكلف والمرهق للمواطنين ودافعي الضرائب منهم.
وكلما ارتفع منسوب “المؤامرة” في خطاب المسؤولين الإيرانيين، وكلما أظهر خصوم طهران، مزيداً من “التبني” و”التعاطف” و”التشجيع” و”التحريض”، تزايدت احتمالات دخول الحركة الاحتجاجية الشعبية في مربعات “العنف” و”العنف المضاد”، وارتفع منسوب القلق من مغبة أن تعيد إيران انتاج بعض تجارب “الربيع العربي”، الأكثر دموية.
على أن المتتبع للمشهد الإيراني، لن يفوته إدراك حقائق ثلاثا، يصعب من دونها فهم ديناميكيات تطور انبثاق الحركة الاحتجاجية واحتمالات تطورها:
الحقيقة الأول؛ إن إيران، بتخصيصها للكثير من مواردها لتطوير قدارتها العسكرية وحفز برامجها التسليحية، إنما تكون فعلت ذلك على حساب “رفاه” مواطنيها وصحتهم وتعليمهم وتوفير فرص عمل لهم، خصوصاً للفئات الشابة والأجيال الناشئة ...وهذا محرك قوي لأي فعل شعبي احتجاجي ... بهذا المعنى، تكون إيران سلكت طريق الاتحاد السوفياتي المنحل، ومن دون أن تستفيد من دروس تجربته: من دون تطور في شتى مجالات الحياة والاقتصاد والخدمات، لا يمكن لأي برامج تسليحية أو عسكرية، أن تحفظ أمن الداخل واستقراره، ولا تبقي على تماسكه ... التطور ذو البعد الواحد، واصل لا محالة إلى طريق مسدود، سيما أن ترافق مع إصرار على الاحتفاظ بدور إقليمي/ دولي مكلف، كما في الحالتين الإيرانية والسوفياتية، والثورات لحظات ومحطات في تاريخ الشعوب والمجتمعات، ومعيار انتصار الثورة الأهم، يتجلى في قدرتها على التحوّل إلى دولة... بهذا المعنى، تبدو الحركة الاحتجاجية مفهومة، بل ومفهومة تماماً.
الحقيقة الثانية؛ أن لإيران مروحة واسعة من الخصوم والأعداء، لم يترددوا في الكشف عن نواياهم وأهدافهم بـ “نقل الحرب إلى الداخل الإيراني”، وأن هذه الأطراف، لم تقف ساكنة وصامتة طوال السنوات القليلة الفائتة، وأنها دعمت فئات وجماعات ومكونات إيرانية، بهدف زعزعة أمن إيران واستقرارها وتفتيت وحدتها، وأن هذه الأطراف لم تتوان عن دعم جماعات إرهابية لاستهداف إيران في عمقها، وأن ثمة جهدا استخباريا لم يعد خافياً على أحد، بهدف ضرب البيت الإيراني من الداخل، وأن محاولات كهذه، تنخرط فيها بنشاط متفاوت من حيث جديته وخطورته، أطراف دولية مثل الولايات المتحدة، وإقليمية مثل إسرائيل قالت وفعلت ذلك علناً على أي حال... بهذا المعنى، لا يبدو أن حديث “المؤامرة” منبت عن سياقه، فلدى القائلين به، معطيات تدلل على جدية خطابهم.
والحقيقة الثالثة؛ ثمة في أفق الحركة الاحتجاجية، ما يشي بوجود صراع قوى داخل النظام الإيراني، ربما كان امتداداً لانتفاضة 2009، التي أعقبت انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيساً لإيران ... ولقد كان في نبرة التصريحات الرئيس روحاني، ما يشي بذلك ... ما يعني، أن الظاهرة الاحتجاجية، لا تعبر عن احتقان العلاقة بين النظام والشارع، أو قسم منه على أقل تقدير، بل وتعكس خللاً في علاقات القوة بين اتجاهات النظام ومدارسه وتياراته الفكرية والاجتماعية المختلفة، وتلكم حقيقة يعرفها الجميع على أي حال، وتظهر جلية في كل موسم انتخابي، رئاسياً أكان أم برلمانياً، وهي تملي إعادة التفكير جدياً في طبيعة النظام السياسي الإيراني وقدرته على استيعاب وتمثيل وتمثل التعددية الإيرانية السياسية والاجتماعية والاثنية والدينية وغيرها.
خلاصة القول، قد يكون من السابق معرفة كيف ستتطور الاحتجاجات في إيران، لكن على القيادة الإيرانية إن هي أرادت عدم الانزلاق إلى “أسوأ سيناريو”، أن تتفادى مع حصل في سوريا، وألا تكثر من التعويل على “نظرية المؤامرة”، وأن تبقي في خلفية وعيها للأزمة، تجربة صعود وهبوط الاتحاد السوفياتي، فثمة الكثير من المشتركات وأوجه التشابه في التجربتين، ومن دون أن يعني ذلك، التسامح مع محاولات التدخل والتخريب التي ستقوم بها أطراف عدة، وبالذات إسرائيل، خدمة لمصالح ومآرب أخرى، ليس للشعب الإيراني ناقة فيها ولا جمل.
مدار الساعة ـ نشر في 2018/01/03 الساعة 00:02