«مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ»..؟
مدار الساعة ـ نشر في 2017/12/02 الساعة 00:07
لا يمكن ان نتحدث عن ميلاد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بمعزل عن البعثة والرسالة او عن الاسلام الذي ولد من جديد ، بما يشتمله من دعوة للحرية والانعتاق من القيود ، ومن حركة نحو الحياة والعمران ، ومن استعداد لاداء امانة بناء الحضارة الانسانية ، وتفويض الانسان مسؤولية الخلافة ، والحاح على طلب العلم والنظر في الكون بما يترتب على ذلك من تكريمه للعقل وتزكية للنفس واعتماد المعرفة طريقا الى السماء ، وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، في حياته وسيرته ، نموذجا لكل هذه القيم ودليلا عمليا لكل الباحثين عن الهداية ، والرافضين للعزلة ، والساعين الى حمل الرسالة والولادة منها ، لصناعة فجر يليق بالبشرية العذبة ، ويكمل المهمة التي بدأها الانبياء -عليهم السلام- واختتمها صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن ان نحرر الاسلام مما ارتكبناه بحقة دون ان نفهم شخصية الرسول وسيرته ونستلهم منهما النموذج الذي نبحث عنه.
اذا سألتني عن العنوان الذي نحتاج ان نذهب اليه ونحن نستذكر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ونحتفى بذكرى مولده، ساجيبك على الفور : عنوان “ الرحمة”، ذلك ان صورتنا التي تلوثت بدمائنا، واخلاقنا التي تراجعت امام مشاهد القسوة، وافئدتنا التي انفطرت من هول الكوارث والحروب، تدفعنا الى البحث عن “ ملاذ “ آمن نطمئن فيه الى انفسنا، ونستعيد ثقتنا بها، وايماننا بقدرتنا على تجاوز ما نحن فيه، واي ملاذ افضل من “الرحمة” التي جسدها الرسول الكريم في سيرته الشريفة وافتقدناها للاسف في هذا العصر الرديء الذي امتدت رداءته الى ضمارنا المتعبة من الظلم والخوف والاحباط.
نعم، اذا اردت ان تعرف الاسلام على حقيقته فاقرأ آيات الرحمة في الكتاب العزيز، وتصفح قصصها في احاديث الرسول عليه السلام، وانت - لا بد - ستجد من يطمئن نفسك ويشحذ همتك ويقوي ايمانك وعزيمتك ويجعلك اكثر اقترابا لخالقك وتصالحا مع نفسك وحبا لدنياك وآخرتك.
ورد لفظ الرحمة في اكثر من (400) موقع في القرآن الكريم، اختاره الله تعالى ليكون واحدا من اسمائه الحسنى وصفة من صفاته، ونعت به انبياءه ورسله، وجعله معيارا للعلاقة الطيبة بين عباده المؤمنين، وجزاء للمتقين الصالحين.
وفي هذا الاطار، سعى النبي عليه السلام منذ بداية الدعوة الى تأسيس ثقافة الرحمة واشاعة مناخاتها لاقامة المجتمع المتحاب المتكافل، واستطاع في سنوات قليلة ان يعيد تشكيل العقلية العربية التي كانت اكثر ميلا للقسوة، بحكم المكان والظروف والمراسيم، لتصبح اكثر تسامحا ورأفة ورحمة، ولم تتوقف المسألة عند علاقة المسلم بأخيه بل تجاوزتها الى علاقاته مع غيره ممن يختلفون معه في الدين والمعتقد، ومع الكائنات والموجودات ايضا، وفي سيرة الرسول الاكرم نماذج كثيرة من الرحمة مع الكافرين والمخالفين، ومع الحيوانات، وحتى في احلك الظروف حيث يشتد اوار القتال وتنسحب من القلوب مشاعر الرحمة، كان عليه السلام يأمر جنده بألا يطلبوا القتال لذاته، والا يسرفوا فيه، لا بل وان يرحموا اعداءهم من غير المقاتلين ايضا.
في مواسم الاقتتال الذي تشهده ساحتنا الاسلامية، واستضعاف الامة من قبل اعدائها، نستحضر مفهوم الرحمة والتراحم، داخل الاسرة والمجتمع والامة الواحدة، لنقول، إن امتنا احوج ما تكون الى هذه القيمة السامية فلا علاقة بين المسلمين ببعضهم او بينهم وبين دولهم يمكن ان تستقيم في ظل القسوة والتنابز والحقد والخوف والانتقام، ولا امل في اي نهضة او حركة تنوير او مشروع تنمية الا اذا عاد المجتمع الى رحمه الاول، حيث الرحمة هي الاساس وحيث التراحم والتعايش ووقف دعوات التكفير والاخراج عن الملة، وسوء الظن هي المفاصل الاساسية للبناء والاخاء.
نحتفي -دائما - برسولنا ونستأنس به من وحشتنا ونلوذ الى سيرته لنبدد يأسنا وخوفنا، ونعتز بعظمته وانسانيته ورسالته لنجدد ايماننا، فالرحمة احيانا قبل العدل، اما الذين يحاولون فرض الالتباس بينها وبين ما قرره الاسلام من احكام في اطار العقوبات - وما اقلها - فلا اكثر من ان تقول لهم: وما ارسلناك الا رحمة للعالمين؛ لأن هدف الاسلام - بكل ما جاء به - هو رحمة الناس، “مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ “ صدق الله العظيم.
الدستور
مدار الساعة ـ نشر في 2017/12/02 الساعة 00:07